خطبة
الدعوة إلى الإنسانية
27.10.2023بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحٖيمِ
) لَقَدْ خَلَقْنَا الْاِنْسَانَ فٖٓي اَحْسَنِ تَقْوٖيمٍؗ ﴿٤﴾ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ اَسْفَلَ سَافِلٖينَۙ ﴿٥﴾ ﴾
عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
« مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ[…] »
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
إنَّ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ مُقَدَّسَةٌ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَدِي عَلَيْهَا. لِأَنَّهَا قَبْلَ أَيِّ شَيْءٍ تَكْتَسِبُ قِيمَتَهَا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى لِخَلْقِهِ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. كُلُّ إنْسَانٍ مُوَقَّرٌ بِسَبَبِ فِطْرَتِه الَّتِي تَجْعَلُهُ إنْسَانًا. وَيُشِيرُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى الْأَشْيَاءِ الْمُهِمَّةِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ الْبَشَرِ بِقَوْلِهِ “مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ”.
وَلَا شَكَّ أَنَّ خَلَقَ الْإِنْسَانِ فِي حَدِّ ذَاتِهِ مَظْهَرٌ مِنْ مَظَاهِرِ الرَّحْمَة الْفَرِيدَة. وَالْإِنْسَانُ أَيْضًا وَصَلَ إلَى قِيمَةٍ لَا تَتَحَمَّلُهَا الْجِبَالُ وَالْمَخْلُوقَاتُ كَافَّةً بِتَلَقِّي الْوَحْي. إنَّ الْوَحْيَ الَّذِي وَصَلَ إلَي الْإِنْسَانِ عَبْرَ التَّارِيخِ يَحُثُّ الْإِنْسَانَ عَلَى الْوُصُولِ إلَى الشَّيْءِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ النَّاسِ رَغْمَ اِخْتِلافِنا. وَتُشِير الْآيَةُ إلَى أَنْ كُلَّ الِاخْتِلَافَاتِ بَيْنَ النَّاسِ تَهْدِفُ إِلىَ حِكْمَةٍ إلَهِيَّةٍ وَاحِدَةٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ). إنَّ اخْتِلَافاتِنَا تُذَكِّرُنَا بِاَللَّهِ بِكَوْنِهِ وَضْعَ الرَّحْمَةِ فِينَا.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
لَلْأَسَفِ فَإِن الْبَشَرِيَّةَ بَعِيدَةٌ كُلَّ الْبُعْدِ عَنْ إدْرَاكِ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّهَا لَا تَصْغِي إلَى نِدَاءِ فِطْرَتِهَا، وَلَا إلَى نِدَاء الْوَحْي، وَلَا إلَى نِدَاء الْخَلْق وَإِلَّا كَيْفَ يُمْكِنُنَا تَفْسِيرُ الْكَرَاهِيَة والعداء وَالْحُرُوبِ الَّتِي لَا تَزَالُ مُسْتَمِرَّةٌ حَتَّى الْيَوْم؟
وَكَمَا نَشْهَدُ فِي يَوْمِنَا هَذَا مِصْدَاقَ قَوْلِهِ تَعَالَى: “لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ” فَإِنَّنَا نَشْهَدُ أَيْضًا الْيَوْم تَجَلِّيَاتِ قَوْلِه تعالى: “ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ”.
الْإِنْسَانُ الظَّالِمُ لَا يُعْطِي حَقّ الْحَيَاةِ لِشَخْصٍ آخَرَ، وَكَأَنَّه يُخَالِف فِطْرَتَهُ. فَهُو بتغَاضِيه عَن فِطْرَتِه، يَظْلِمُ نَفْسَهُ ظُلْمًا حَقِيقِيًا. ومَنْ لَا يَسْتَطِيعُ تَقْدِيرَ قِيمَةِ الْآخَرِينَ هَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يُقَدَّرَ قِيمَةَ نَفْسِهِ؟ وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَمَا يَبْتَعِدُ عَن فِطْرَتِه، فَإِنَّه يَظْلِمُ أيضاً الْآخَرِينَ، وَلِأَنَّهُ خَالَفَ فِطْرَتَهُ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يَعِيشَ فِي سَلَامِ مَعَ شَخْصٍ آخَرَ.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
إنَّ الْأَحْدَاثَ المُؤْلِمَةَ الَّتِي وَقَعَتْ مُنْذُ أَكْثَرَ مِنْ أُسْبُوعَيْنِ حَطَّمَتْ قُلُوبَنَا. وَإِنَّ أَجْسَادَ الْأَطْفَالِ بَيْنَ الْمَبَانِي المُدَمَّرَةِ وصُرَاخَ الْآبَاءِ وَالْأُمَّهَاتِ الَّذِي يَرْتَفِعُ حَتَّى السَّمَاءِ يُظْهِرُ لَنَا أَنْ الْإِنْسَانِيَّةَ فِي الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ لَمْ تُحَقِّقْ أَيَّ تَقَدُّمٍ كَمَا يُزْعَمُ.
وَبِغْضِّ النَّظَرِ عَنْ رَفْضِ الْحَرْب نَفْسِه، عِنْدَمَا نَرَى قَتْلَ الْمَدَنِيِّينَ وَانْتِهَاكَ الْحُقُوقِ الْإِنْسَانِيَّةِ وقَوَانِينِها تَحْتَ الْإِقْدَامِ، نَشْعُرُ بِالْقَلَقِ تجاه مستقبلنا. عَلَيْنَا أنْ نَصْغِيَ جيدا إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ بِحِكْمَة: (مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعً).
أيُّها الإخْوَةُ الأفاضِل،
إنَّ دَعْوَةَ الْإِسْلَامِ لِلنَّجَاةِ هِي للبَشَرِيَّةِ أَجْمَعِين. إذَا لَمْ نَتَمَكَّنْ مِنْ تَحْقِيقِ السَّلَامِ فِي الدُّنْيَا، فَلَا تَظُنَّ بِأَنَّا سَنَصِلُ لِلسَّلَامِ فِي الْآخِرَةِ. نَحْنُ نَرَى أَنْفُسَنَا مُلْزَمِينَ بِحِمَايَةِ حَقِّوقِ الآخَرينَ فِي الْحَيَاةِ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَمَّنْ يَكُونُ. وَنَحْنُ نَدْعُو الْبَشَرِيَّةَ أَجْمَعِين دَائِمًا إِلَى نِدَاءِ اللَّهِ فِي الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا).
إذَا لَمْ نَتَمَكَّنْ مِنْ إبْقَاءِ الْإِنْسَانِيَّةِ فِي جَمِيعِ الْمَنَاطِقِ الَّتِي يُعَانِي فِيهَا المظلُومُونَ، فَلَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَدَّعِي بأننا نَعِيشُ إنْسانِيَّتَنَا. وَلِهَذَا السَّبَب، فَإِنَّنَا نَدْعُو الْبَشَرِيَّةَ جَمِيعًا إلَى تَحْقِيقِ فِطْرِه الْإِنْسَانِ. وَنَدْعُو إلَى فَهْمِ الْفِطْرَةِ الَّتِي غَرَّزهَا فِينَا مَوْلَانَا عَزَّ وَجَلَّ.