خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة – أَخْلَاقُ التِّجَارَة
27.10.2022أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
لَقَدْ عَرَفَتِ الْبَشَرِيَّةُ التِّجَارَةَ مُنْذُ بِدَايَةِ تَكَوُّنِ الْمُجْتَمَعَاتِ، وَنَشْأَةِ الْعَلَاقَاتِ الْمَالِيَّةِ بَيْنَ أَفْرَادِهَا. وَأَصْبَحَتِ التِّجَارَةُ مَعَ الزَّمَنِ جُزْءًا أَسَاسِيًّا فِي حَيَاةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا. وَنَقْصِدُ بِالتِّجَارَةِ: عَمَلِيَّةَ بَيْعِ وَشِرَاءِ السِّلَعِ الْمُخْتَلِفَة. وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ «التَّاجِرَ الصَّدُوقَ تَحْتَ ظِلِّ الْعَرْشِ يَوْمَ الْقِيَامَة».[1] وَأَنَّ «التَّاجِرَ الصَّدُوقَ الْأَمِينَ، معَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء».[2] وَأَنَّ «التُّجَّارَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فُجَّارًا، إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللَّهَ وَبَرَّ وَصَدَق».[3]
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
إِنَّ إِبْرَازَ النَّبِيِّ ؐ فِي الْحَدِيثِ السَّابِقِ لِصِفَتَيْ اَلصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ لَدَى التَّاجِرِ أَمْرٌ فِي غَايَةِ الْأَهَمِّيَّة. لِأَنَّ الْإِنْسَانَ بِحُكْمِ كَوْنِهِ مَخْلُوقًا ضَعِيفًا، مُعَرَّضٌ لِرِعَايَةِ مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ خَاصَّةً، وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ عَلَى حِسَابِ الشَّخْصِ الَّذِي يَتَعَامَلُ وَيُتَاجِرُ مَعَه. وَالسَّبَبُ الرَّئِيسِيُّ لِهَذَا الْأَمْرِ هُوَ الْحِرْصُ عَلَى الدُّنْيَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ؐ: «لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى وَادِيًا ثَالِثًا. وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَاب. ويَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَاب».[4] فَالْإِنْسَانُ الَّذِي يَقَعُ أَسِيرَ نَفْسِهِ وَحِرْصِهِ عَلَى الدُّنْيَا، لَا يَسْلَمُ مِنَ الْحِيلَةِ وَالْأَنَانِيَّةِ فِي التَّعَامُل. قَالَ تَعَالَى: ﴿ِوَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِين (1) اَلَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُون (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُون﴾.[5]
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
لَقَدْ أَمَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِأَنْ نَتَخَلَّقَ بِأَخْلاَقِ الْإِسْلَامِ فِي تِجَارَاتِنَا. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاَوْفُوا الْكَيْلَ اِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقٖيمِؕ ذٰلِكَ خَيْرٌ وَاَحْسَنُ تَأْوٖيلاً﴾.[6] فَلَا بُدَّ فِي التِّجَارَةِ مِنْ رِعَايَةِ حُقُوقِ الْعِبَادِ، وَالْحَذَرِ مِنَ التَّضْحِيَةِ بِعَاقِبَتِنَا مِنْ أَجْل ِرِبْحٍ دُنْيَوِيٍ مُتَوَقَّع. وَلْنَعْلَمْ أَنَّ الْغِشَّ وَالْحِيلَةَ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ حَرَامٌ، وَأَنَّ الْمَالَ الْمُكْتَسَبَ مِنْهُمَا كَذَلِكَ حَرَام. قَالَ ؐ: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلاً سَمْحًا إِذَا بَاعَ، سَمْحًا إِذَا اشْتَرَى، وَسَمْحًا إِذَا اقْتَضَى».[7] فَيَنْبَغِي عَلَى التَّاجِرِ الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَّسِمَ بِالسَّمَاحَةِ مَعَ كُلِّ مَنْ يَتَعَامَلُ مَعَهُم. وَبِالْأَخَصِّ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ الَّتِي يُعْتَبَرُ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا مُمَثِّلًا لِلْإِسْلَامِ بِأَفْعَالِهِ وَطَرِيقَةِ حَيَاتِه. فَيَجِبُ أَنْ نَكُونَ فِي التِّجَارَةِ صَادِقِينَ وَأَلَّا نَنْسَى بِأَنَّنَا نُمَثِّلُ دِينَنَا.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
لَا شَكَّ أَنَّ طَلَبَ الْمُؤْمِنِ لِلْحَلَالِ عَنْ طَرِيقِ السُّبُلِ الْمَشْرُوعَةِ لِذَلِكَ أَمَرٌ جَائِز. وَلَكِنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْنَا أَلَّا نَنْجَرَّ وَرَاءَ الدُّنْيَا إِلَى دَرَجَةِ أَنْ نُهْمِلَ مِنْ جَرَّاءِ ذَلِكَ آخِرَتَنَا. فَلْنَحْرِصْ عَلَى أَنْ نَكُونَ كَمَنْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِم: ﴿ِرِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ﴾.[8]
أَسْأَلُ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُوَفِّقَنَا لِطَاعَتِهِ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا رِزْقًا حَلَالًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيه. إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْه. آمِين!
[1] سنن ابن ماجه، كتاب التجارات، 1
[2] سنن الترمذي، كتاب البيوع، 4
[3] صحيح البخاري، كتاب الرقاق، 10؛ صحيح مسلم، كتاب الزكاة، 116
[4] صحيح مسلم، كتاب البر والصلة، 165
[5] سورة المطففين: 1-3
[6] سورة الإسراء: 35
[7] صحيح البخاري، كتاب البيوع، 16
[8] سورة النور: 37