خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة ٧\٥\٢٠٢١ – إِحْيَاءُ لَيْلَةِ الْقَدْر
07.05.2021
إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ مِنْحَةٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ لِعِبَادِه. يَبْسُطُ اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا رَحْمَتَهُ لِعِبَادِهِ وَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ، فَيَغْفِرُ لِلْمُسْتَغْفِرِ وَيَتُوبُ عَلَى مَنْ تَابَ، مَهْمَا بَلَغَتْ ذُنُوبُ عِبَادِهِ وَخَطَايَاهُم. إِنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لَيْلَةٌ تَبْلُغُ فِيهَا الْفَرْحَةُ الَّتِي غَمَرَتْ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ بِحُلُولِ رَمَضَانَ أَوْجَهَا. فَاللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ وَلَكَ الشُّكْرُ عَلَى أَنْ بَلَّغْتَنَا لَيْلَتَكَ هَذِهِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْر، نَحْمَدُكَ اللَّهُمَّ حَمْدًا دَائِمًا إِلَى يَوْمِ الدِّينِ وَنُصَلِّي وَنُسَلِّمُ عَلَى حَبِيبِكَ الْمُصْطَفَى ﷺ صَلاَةً وَسَلاَمًا دَائِمَيْنِ مُتَلاَزِمَيْنِ إِلَى يَوْمِ الدِّين.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
إِنَّ كَلِمَةَ “اَلْقَدْر” فِي أَصْلِ اللُّغَةِ تَأْتِي بِمَعَانٍ، مِنْهَا: اَلْقِيمَةُ وَالْمَكَانَةُ وَالشَّأْنُ وَالْمِقْدَار. وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قِيمَةَ هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَمَكَانَتَهَا إِذْ أَنْزَلَ سُورَةً كَامِلَةً بِاسْمِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَقَالَ فِيهَا: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾.[1] فَهَذِه لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ عُمْرٍ إِنْسَانٍ كَامِل. هِيَ لَيْلَةٌ تَنْزِلُ فِيهَا مَلاَئِكَةُ اللَّهِ وَعَلَى رَأْسِهِمْ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ إِلَى الْأَرْض. هِيَ لَيْلَةٌ شَرَّفَ فِيهَا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ هَذِهِ الدُّنْيَا لِأَوَّلِ مَرَّة. فَهِيَ لَيْلَةُ الْقُرْآنِ، وَلَيْلَةُ الْغُفْرَان. هِيَ لَيْلَةُ الْإِقْبَالِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى بِكُلِّ مَا يَمْلِكُهُ الْإِنْسَان.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ عَنْ شَرَفِ هَذِهِ اللَّيْلَةِ: «مَنْ قَامَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».[2] وَيُمْكِنُ قِيَامُ هَذِهِ اللَّيْلَةِ وَإِحْيَاءُهَا بِكُلٍّ مِنَ الصَّلاَةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَبِالْاِشْتِغَالِ بِالتَّسْبِيحِ وَذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ. رَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ».[3]
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
لَقَدْ أَوْصَانَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِأَنْ نَلْتَمِسَ وَنَتَحَرَّى لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي اللَّيَالِي الْوِتْرِيَّةِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَان. وَقَدْ رَوَتْ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ كَانَ يَعْتَكِفُ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ فِي الْمَسْجِد، وَأَنَّهُ ﷺ مَكَثَ فِي مُعْتَكَفِهِ عِشْرِينَ يَوْمًا عَامَ تُوُفِّي.[4] كَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ لَيْلَةَ الْقَدْرِ هِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْفَجْر: ﴿وَالْفَجْرِ . وَلَيَالٍ عَشْرٍ﴾. هَذَا إِلَى جَانِبِ مَا رُوِيَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: اَلْعَشْرُ الْأَوَائِلُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ مِنْ مُحَرَّم.[5]
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا وَهُوَ يُحْيِي هَذِهِ اللَّيْلَةَ الْمُبَارَكَةَ بِالْعِبَادَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ أَنْ يُرَاجِعَ فِيهَا عَلَاقَتَهُ بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَيُعِيدَ النَّظَرَ فِي صِلَتِهِ بِكَلاَمِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. رُوِيَ عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: “إِنِّي لَأَسْتَحِي أَلاَّ أَنْظُرَ كُلَّ يَوْمٍ فِي عَهْدِ رَبِّي مَرَّة” يَقْصِدُ الْقُرْآن.[6] وَرُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: «أَعْطُوا أَعْيُنَكُمْ حَظَّهَا مِنَ الْعِبَادَةِ» فَقَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا حَظُّهَا مِنَ الْعِبَادَة؟ قَالَ: «اَلنَّظَرُ فِي الْمُصْحَفِ، والتَّفَكُّرُ فِيهِ، وَالْاِعْتِبَارُ عِنْدَ عَجَائِبِه».[7] فَعَلَيْنَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ نَهْتَدِيَ بِوَصِيَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَنُنَوِّرَ أَبْصَارَنَا بِالْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَأَنْ نَتَدَبَّرَ مَعَانِيَهُ حِينَ نَتْلُوهُ وَأَنْ نَتَّعِظَ بِمَا فِيهِ وَنَعْتَبِرَ بِه.
إِخْوَتِيَ الْكِرَام،
أَوَدُّ أَنْ أَخْتِمَ خُطْبَتِي بِقِرَاءَةِ سُورَةِ الْقَدْر، اَلَّتِي نَزَلَتْ ِفي حَقِّ هَذِهِ اللَّيْلَةِ خَاصَّةً. ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ . وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ . لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ . تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ . سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْر﴾.[8] وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ عَلِمْتُ أَيَّ لَيْلَةٍ لَيْلَةُ الْقَدْرِ مَا أَقُولُ فِيهَا؟ قَالَ: «قُولِي: اَللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ كَرِيمٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي». فَلْنُكْثِرْ أَيُّهَا الْأَحْبَابُ مِنْ تَرْدِيدِ هَذِهِ الدُّعَاءِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ، عَسَى اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُدْخِلَنَا فِي عِبَادِهِ الْعُتَقَاءِ مِنَ النَّارِ فِي هَذِهِ اللَّيْلَة. أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يُعِيدَ عَلَيْنَا وَعَلَى أُمَّةِ الْإِسْلاَمِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ بِالْخَيْرِ وَالْيُمْنِ وَالْبَرَكَات. آمِين.
[1] سورة القدر: ٣
[2] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، ٢٨
[3] سنن ابن ماجه، كتاب الصيام، ١٦٤٤
[4] صحيح البخاري، كتاب ليلة القدر، ٣. كتاب الاعتكاف، ١٧
[5] تفسير النسفي، ٤\٥١٨
[6] نوادر الأصول للحكيم الترمذي، ٣٣٣
[7] سنن البيهقي، شعب الإيمان (٢٠٠٣)، 3٣\٥٠٩ – في إسناده ضعف
[8] سورة القدر: 1-5