خطبة
الِالْتِزَامُ بِحُدُودِ اللَّهِ
28.12.2023بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحٖيمِ
) يَٓا اَيُّهَا الَّذٖينَ اٰمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَٓا اَحَلَّ اللّٰهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُواؕ اِنَّ اللّٰهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدٖينَ ﴿٨٧﴾ ﴾
عَنِ ابنِ مَسْعودٍ أنَّ النَّبيَّ ﷺ قال:
«ألَا هلكَ الْمُتَنَطِّعونَ ألَا هلَكَ المتنطِّعونَ ، ألَا هلكَ المتنطِّعونَ»
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُخَاطِبُنَا بِالْآيَةِ الَّتِي قَرَأْنَاهَا فِي بِدَايَةِ الْخُطْبَةِ. خَلَقَ اللَّهُ الكَوْنَ مُتَوَازِنًا مُتَكَامِلًا. إذَا وَقَعَتْ بَذْرَةٌ عَلَى الْأَرْضِ لَا يُمْكِنُ أَنْ تَنْبُتَ وتَنْمُوَ إذَا لَمْ تَأْخُذْ الْقَدْرَ الْكَافِي مِنْ ضَوْءِ الشَّمْسِ أَوْ إذَا تَعَرَّضَتْ لِكَمِّيَّاتٍ وَفِيرَةٍ مِنَ الْمَطَرِ الْغَزِير. إذَا تَعَرَّضَ الْكَوْنُ لاِهْتِزَازٍ طَفِيفٍ فَإِنَّهُ قَدْ يُؤَدِّي إلَى اِنْهِيَارِ الْكَوْن بِأَكْمَلِه. حَتَّى إذَا خَرَجَتِ الكُرَةُ الأرْضِيَّةُ عَن مَسَارِهَا حَتَّى وَإِنْ كَانَ مَسَافَةً قَصِيرَةً فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ يُؤَدِّي إلَى انْتِهَاءِ الْحَيَاةِ. وأَيْضًا إذَا نَظَرَ الْإِنْسَانُ وفَكَّرَ فِي كَيْفِيَّةِ خَلْقِهِ لَتَعَجَّبَ مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ المُدْهِشِ. وَيُذَكِّرُنَا هَذَا الاِنْسِجَامُ الرَائِعُ الَّذِي فِي الْكَوْنِ والْإِنْسَانِ بِهَذِهِ الْآيَةِ:)اَلَّذٖي لَهُ مُلْكُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرٖيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدٖيراً(
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الَّذِي خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ بِقَدْرٍ قَدْ وَضَعَ أَيْضًا الْحُدُودَ لِلْإِنْسَانِ وَفْقًا لِغَايَةِ الْخَلْقِ. وَهَذِهِ الْحُدُودُ هِيَ الاِعْتِبَارُ بِمَا حَدَّدَهُ الدِّينُ. إنَّ اللَّهَ تَعَالَى الَّذِي بَعَثَ الْإِسْلَامَ رَحْمَةً لِلْبَشَرِيَّةِ، وَضَعَ لَنَا الْحُدُودَ لِكُلِّ مَرْحَلَةٍ فِي الْحَيَاةِ. وَهَذِه الْحُدُودُ الَّتِي نُلَخِّصُهَا بشَكْلٍ عَامٍّ بِمَفَاهِيمِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ هِي الْمَصْدَرُ الْوَحِيدُ لِلْفَوْزِ بِالدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
إِنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي أَكْرَمَهُ اللَّهُ بِنِعَمٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى إذَا تَعَدَّى عَلَى حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ وَصَفَهُ اللَّهُ بِالْمُتَجَاوِزِ لِلْحَدّ. وَتُشِيرُ عِبَارَاتٌ مِثْلُ “التَّعَدِّي والطُّغُيَانِ” الْوَارِدَةِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ إلَى الظُّلْمِ الَّذِي تَتَعَرَّضُ لَهُ الْإِنْسَانِيَّةُ إذَا تَجَاوَزَ الحُدُودَ، عَلَى سَبِيلِ الْمِثَالِ إذَا أَفْرَطَ الْإِنْسَانُ فِي الطَّعَامِ فَإِنَّهُ يَضُرُّ بَدَنَهُ أَوَّلًا، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ السَّيْطَرَةَ عَلَى غَضَبِهِ فَهُوَ بِهَذَا أولاً يَظْلِمُ نَفْسَهُ.
إِنَّ الْإِنْسَانَ الَّذِي يَرْتَكِبُ أَفْعَالًا حَرَّمَهَا اللَّهُ فَهُوَ بِهَذَا يَظْلِمُ عائِلَتَهُ فَتُصْبِحُ العَلاَقَاتُ الأُسَرِيَّةُ بِدُونِ حُبٍّ، وَمَوَدَّةٍ، وَثِقَةٍ. كَمَا يُشْكِّلُ تَفَكَّكُ الْأُسْرَةِ مَصْدَرًا لِلاِضْطِرَابَاتِ فِي المُجْتَمَعِ. وَلِذَلِك فَإِنَّ تَجَاوُزَ حُدُودِ اللَّهِ تَعَالَى، وَعَدَمَ الِالْتِزَامِ بِمَا حَدَّدَهُ اللَّهُ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ هُوَ ظُلْمٌ يَرْتَكِبُهُ الْإِنْسَانُ ضِدَّ نَفْسِهِ أَوَّلًا، ثُمَّ عائِلَتِهِ، وَالْمُجْتَمَعِ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الظُّلْمَ يَجُرُّ الْإِنْسَانَ نَحْوَ الِانْقِرَاضِ.
إن النبيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم قال: «ألَا هلكَ الْمُتَنَطِّعونَ، ألَا هلَكَ المتَنَطِّعونَ، ألَا هلكَ المتنطِّعونَ» قالَهَا ثلاثاً، وكَرَّرَهَا النَّبِيُّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّم إشَارَةً إلَى خُطُورَةِ تَجاوُزِ الحَدَّ. يُمْكِنُ لِلْكَلِمَةِ السَّيِّئَةِ الَّتِي نَنْطِقُ بِهَا أَن تُدَمِّرَ الْأُسْرَةَ، وَيُمْكِنُ لِلتَّصَرُّفِ غَيْرِ اللَائِقِ أَنْ يَخْلُقَ شِجَارًا. فَإِنَّ تَجَاوُزَ الحَدِ فِي الدُّنْيَا لَيْسَ إلَّا هَلَاكًا فِي الْآخِرَةِ. إِنَّ الْفِتْنَةَ أوْ َالنِّفَاقَ، وَالْبُخْلَ أوْ التَّبْذِيرَ وَالْقِتَالَ أَوْ الْحَرْبَ يُهَدِّدُ الْفَرْدَ، وَالْأُسْرَةَ، وَالْمُجْتَمَعَ بِشَكْلٍ كَامِلٍ. الْمُبَالَغَةُ فِي التَّبْذِيرِ وَالتَّرْفِيهِ مُؤَشِّرٌ آخَرٌ عَلَى تَجَاوُزِ الحُدُودِ. فِي حَالَةِ تَحْقِيقِ الرَّغَبَاتِ الدُّنْيَوِيَّةِ الَّتِي لَا تَنْتَهِي، تَنْدَفِعُ النُّفُوسُ إِلَى حَالَةٍ مِنَ الْجُنُونِ.
أيُّها الإخْوَةُ الأفاضِل،
فِي يَوْمِنَا هَذَا أَصْبَحَتْ النَّفْسُ الْأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ كَالْعَادَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ. عَلَى الرَّغْمِ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمْتَلِكُ إمْكَانِيَّاتٍ مُحَدَّدَةً؛ لَكِنَّهُ يُحَاوِلُ جَاهِدًا لِتَحْقِيقِ كُلِّ رَغَبَاتِهِ الَّتِي لَا تَنْتَهِي. وَابْنُ آدَمَ الَّذِي لَا يمْلَأُ عَيْنَه إلَّا التُّرَابُ لَن يَشْبَعَ مِنْ أَيِّ مُتْعَةٍ. يُحَاوِل بِاسْتِمْرَارٍ إلَى شَيْءٍ جَدِيدٍ وَأَفْضَلَ، وَمَعَ ذَلِكَ فَإِنَّ الرِّضَى بِالنِّعَمِ الَّتِي رَزَقَنَا اللَّهُ بِهَا يَكْفِي لإسْعَادِ الْإِنْسَان. سَيَتَمَكَّنُ الْإِنْسَانُ مِنْ إيجَادِ السَّعَادَةِ لِنَفْسِه، وَلِعَائِلَتِهِ، وَلِمُجْتَمَعِهِ مِنْ خِلَالِ الْعَيْشِ بِحُدُودِ اللَّهِ. فَكَمَا لَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نَمْنَعَ أَنْفُسَنَا مِمَّا أَحَلَّهُ اللَّهُ لَنَا، لَا يُمْكِنُنَا أَنْ نَعْتَبِرَ مَا هُوَ حَرَامٌ لَنَا حَلَالًا. وَالِاعْتِدَالُ عِنْد الْمُؤْمِنِ هُوَ فِعْلُ الْحَلَالِ وَالابْتِعَادُ عَنْ الْحَرَامِ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الَّذِينَ يَلْتَزِمُونَ بِالْحُدُودِ وَلَا يَتَجَاوَزُونَهَا. آمِين