خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة: وَاجِبُنَا تُجَاهَ الْبِيئَة
02.06.2022أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ وَجَعَلَهُ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، وَأَسْنَدَ إِلَيْهِ عِمَارَةَ الْأَرْضِ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا. وَالْخَلِيفَةُ هُو الْكَائِنُ الْمُجَهَّزُ بِالْعَقْلِ وَالْوَعْيِ وَالْقُّوَّةِ اللَّازِمَةِ لِعِمَارَةِ الْأَرْضِ بِمَا يُوَافِقُ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى. وَإِنَّ الْبِيئَةَ وَالطَّبِيعَةَ أَمَانَةٌ عِنْدَنَا، وَتَقَعُ عَلَيْنَا مَسْؤُولِيَّاتٌ تُجَاهَهَا، مِثْلَ عَدَمِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ، وَعَدَمِ الْإِضْرَارِ بِالْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ وَغَيْرِ الْحَيَّةِ فِيهَا. لَكِنَّنَا الْيَوْمَ نَتَعَامَلُ مَعَ الطَّبِيعَةِ بِشَكْلٍ مُؤْذٍ لَهَا، وَنَسْتَهْلِكُهَا اِسْتِهْلَاكًا، وَنَنْسَى أَنَّ هَذِهِ الْبِيئَةَ سَتَرِثُهَا عَنَّا أَوْلَادُنَا وَأَحْفَادُنَا، وَسَيَقْضُونَ حَيَاتَهُمْ فِيهَا. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ اَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾.[1] ولَقَدْ تَمَّ التَّغَافُلُ عَنِ التَّلَوُّثِ الْبِيئِيِّ الْحَاصِلِ، لِأَسْبَابٍ وَأَعْذَارٍ مِثْلَ رَفْعِ مُسْتَوَى رَفَاهِيَّةِ الشُّعُوبِ، وَأَدَّى هَذَا الْوَضْعُ إِلَى اخْتِلَالِ التَّوَازُنِ فِي الطَّبِيعَة. وَأَصْبَحْنَا بَعِيدِينَ عَنْ مَسْؤُولِيَّاتِنَا تُجَاهَ بِيئَتِنَا. وَصِرْنَا نُضَحِّي بِعَالَمِنَا مِنْ أَجْلِ رَفَاهِيَّةٍ مُؤَقَّتَةٍ نَعِيشُهَا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. لَكِنَّنَا مَعَ ذَلِكَ نُشَاهِدُ بِأَنْفُسِنَا آثَارَ هَذَا الدَّمَارِ الَّذِي ظَهَرَ بِمَا كَسَبَتْهُ أَيْدِينَا.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
نَتِيجَةً لِهَذَا الْإِفْسَادِ وَالتَّخْرِيبِ الَّذِي تُمَارِسُهُ الْبَشَرِيَّةُ تُجَاهَ الْبِيئَةِ، فَإِنَّهُ يَفْقِدُ حَيَاتَهُ سَنَوِيًّا بِسَبَبِ التَّلَوُّثِ الْبِيئِيِّ مِلْيُونَ وَخَمْسَمِائَةَ طِفْلٍ دُونَ سِنِّ الْخَامِسَة، وَفْقًا لِتَقَارِيرِ مُنَظَّمَةِ الصِّحَّةِ الْعَالَمِيَّة. فَقَدْ قَرَّرَتْ أَنَّ الْأَطْفَالَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ دُونَ الْخَامِسَةِ مِنْ عُمُرِهِم، يُشَكِّلُ التَّلَوُّثُ الْهَوَائِيُّ وَالتَّلَوُّثُ الْمَائِيُّ، وَعَدَمُ كَفَاءَةِ ظُرُوفِ النَّظَافَةِ، أَسْبَابَ مَا لَا يَقِلُّ عَنْ رُبْعِ هَذِهِ الْوَفَيَاتِ عَالَمِيًّا.
لَا شَكَّ أَنَّ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْتَفِيدَ مِنَ الطَّبِيعَةِ وَأَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا، إِذْ إِنَّ كُلَّ مَا فِيهَا مَخْلُوقٌ مِنْ أَجْلِهِ أَسَاسًا. وَلَكِنْ عَلَيْهِ وَهُوَ يَفْعَلُ ذَلِكَ، أَنْ يَتَجَنَّبَ الْإِسْرَافَ وَالتَّخْرِيب. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمٰوَاتِ وَمَا فِي الْاَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ﴾.[2] فَعَلَيْنَا شُكْرًا لِهَذِهِ النِّعْمَةِ، أَنْ نُحَافِظَ عَلَيْهَا وَأَنْ نُدْرِكَ مَسْؤُولِيَّاتِنَا تُجَاهَهَا، وَأَنْ نَعْلَمَ أَنَّهَا لَدَيْنَا أَمَانَة. عَلَيْنَا أَنْ نُعَكِّسَ جَمَالَ أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِ عَلَى تَعَامُلِنَا مَعَ كُلِّ شَيْءٍ، مَعَ الْبِيئَة، مَعَ النَّاس، مَعَ الْحَيَوَانَات، مَعَ النَّبَاتَات، بَلْ وَعَلَى تَعَامُلِنَا مَعَ الْأَشْيَاءِ غَيْرِ الْحَيَّةِ أَيْضًا. وَنَحْنُ إِنْ لَمْ نَفْعَلْ ذَلِكَ وَقَصَّرْنَا فِي حَقِّ الْبِيئَةِ، فَإِنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ سَيَعُودُ عَلَيْنَا نَحْنُ، وَسَنَذُوقُ فَسَادَ مَا عَمِلْنَاهُ فِي أَمَانَةِ اللَّهِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّه.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
إِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى حَثِّ الْعِبَادِ عَلَى حِمَايَةِ الْبِيئَةِ فَقَطْ، بَلْ إِنَّهُ يَحُثُّ الْعِبَادَ عَلَى أَنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حَارِسًا لِلْبِيئَةِ بِنَفْسِه. وَقَدْ أَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ ؐ إِلَى أَنَّ الْجَامِدَاتِ الَّتِي نَظُنُّ أَنَّهَا لَا تَعْقِلُ وَلَا تُحِسُّ بِشَيْءٍ، أَشَارَ إِلَى أَنَّهَا تُدْرِكُ وَتَشْعُرُ بِبَعْضِ الْأُمُور، وَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي قَالَ فِيهِ ؐ: «اَلْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابّ».[3]
وَقَالَ ؐ: «إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ صَدَقَة».[4] مُشِيرًا إِلَى أَنَّ عَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَجَنَّبَ كُلَّ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُؤْذِيَ الْآخَرِين. ذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يُكِنُّ لِبِيئَتِهِ إِلَّا الرَّحْمَةَ وَالْحُبّ. وَلَا يَكُونُ تَعَامُلُهُ مَعَ الْأَشْجَارِ وَالْمِيَاهِ وَالطَّبِيعَةِ اِسْتِهْلَاكًا لَهَا، بَلْ إِنَّهُ يَرْعَاهَا وَيَتَوَاءَمُ مَعَهَا. وَلَا يَسَعُ أَخْلَاقُهُ إِلْقَاءَ الْقِمَامَاتِ عَلَى الْأَرْض، فَإِنَّ ذَلِكَ يُمَثِّلُ عَدَمَ احْتِرَامِهِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُجْتَمَعِ الَّذِي هُوَ فِيه. إِنَّ الْمُسْلِمَ يَعْلَمُ أَنَّ تَلْوِيثَ الْبِيئَةِ يُسَبِّبُ إِزْعَاجَ الْآخَرِينَ، وَيُشَوِّهُ جَمَالَ الطَّبِيعَة. وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ إِلْقَاءَ النُّفَايَاتِ الَّتِي لَا تَتَحَلَّلُ فِي الطَّبِيعَةِ تَكُونُ وَبَالًا عَلَى صَاحِبِهَا يَوْمَ الْقِيَامَة.
أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا جَمِيعًا مِمَّنْ رَاعَوْا أَمَانَتَهُ حَقَّ رِعَايَتِهَا، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْه. آمِين.
[1] سورة الروم: 41
[2] سورة الجاثية: 13
[3] صحيح البخاري، كتاب الرقاق، 42
[4] صحيح البخاري، كتاب الجهاد، 128