خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة: نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام
29.12.2022أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
لَقَدْ أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى رُسُلَهُ مُنْذُ بِعْثَةِ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى بِعْثَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ ؐ لِيُنْذِرُوا أَقْوَامَهُمْ وَلِيُخْرِجُوهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور. فَعَلَّمُوهُمْ دِينَ اللَّهِ تَعَالَى، وَبَلَّغُوا إِلَيْهِمْ أَوَامِرَهُ وَنَوَاهِيَه، وَعَلَّمُوهُمْ كَيْفَ يَكُونُونَ عِبَادًا لِلَّهِ صَالِحِين. أَمَرُوهُمْ بِنُصْرَةِ الْمُسْتَضْعَفِينَ وَالْأَخْذِ بِأَيْدِيهِمْ، وَأَوْصَوْهُمْ بِالنِّسَاءِ، وَنَهَوْهُمْ عَنِ الْاِقْتِرَابِ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ وَمِنَ الْبَغْي.
وَهَكَذَا كَانَ سَيِّدُنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ نَبِيًّا مُرْسَلًا إِلَى قَوْمِهِ لِيُنْذِرَهُمْ وَلِيُعَلِّمَهُمْ أَمْرَ دِينِهِم. وَهُوَ اِبْنُ مَرْيَمَ الْبَتُول عَلَيْهِمَا السَّلَام، اَلَّتِي وَلَدَتْهُ بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ غَيْرِ أَب. فَكَمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْ غَيْرِ أَبٍ وَلَا أُمّ، فَقَدْ خَلَقَ عَبْدَهُ وَنَبِيَّهُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ أَب. قَالَ تَعَالَى: ﴿َاِنَّ مَثَلَ عٖيسٰى عِنْدَ اللّٰهِ كَمَثَلِ اٰدَمَؕ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾.[1] وَلَقَدْ كَانَتْ وِلَادَةُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِلَا أَبٍ، اِبْتِلَاءً عَظِيمًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لِمَرْيَمَ عَلَيْهَا السَّلَام، وَابْتِلَاءً لِسَائِرِ النَّاسِ لِيَخْتَبِرَ اللَّهُ إِيمَانَهُمْ أَمَامَ هَذَا الْحَدَثِ الْعَظِيم.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
حِينَمَا أَكْرَمَ اللَّهُ تَعَالَى سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِالنُّبُوَّةِ وَهُوَ اِبْنُ ثَلَاثِينَ سَنَة، أَخَذَ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُوا قَوْمَهُ إِلَى دِينِ اللَّهِ، وَيُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ ذَلِكَ بِكُلِّ مَا يَمْلِك. دَعَاهُمْ إِلَى تَوْحِيدِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَدَمِ الْإِشْرَاكِ بِه، وَإِلَى الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِالْحِسَاب، وَإِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا قَبْلَ الْمَمَات. وَأَخْبَرَهُمْ بِأَنَّهُ مُصَدِّقٌ لِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ التَّوْرَاةِ عَلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَام. وَلَكِنَّ قَوْمَهُ كَذَّبُوهُ وَلَم يُؤْمِنُوا بِه. فَآتَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الْمُعْجِزَاتِ مَا يُقْنِعُ بِهِ هَؤُلَاءِ النَّاسَ كَيْ يَسْتَسْلِمُوا لِأَمْرِ اللَّه. مِنْ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ يُحْيِى الْمَوْتَى، وَيَشْفِي الْمَرْضَى، وَيُبْرِئُ الْأَعْمَى فَيَعُودُ بَصِيِرًا. لَكِنْ رَغْمَ كُلِّ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ، آثَرَ قَوْمُهُ أَنْ يُكَذِّبُوهُ وَقَالُوا هَذَا سَاحِرٌ مُبِين. قَالَ تَعَالَى: ﴿َفَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَىٰ مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ ۖ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ﴾.[2]
وَهَكَذَا ابْتُلِيَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ بِقَوْمٍ يُكَذِّبُونَهُ كُلَّمَا حَاوَلَ جَاهِدًا أَنْ يُنْقِذَهُمْ مِنَ النَّارِ وَأَنْ يَضَعَهُمْ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيم. وَهُوَ ظَلَّ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَيَدْعُوهُمْ إِلَى الْإِسْلَامِ إِلَى أَنْ قَالَ تَعَالَى: ﴿َإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ۖ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾.[3] وَرَفَعَ اللَّهُ تَعَالَى سَيِّدَنَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَيْهِ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
لَقَدْ جَاهَدَ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي سَبِيلِ رَبِّهِ حَتَّى رَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَيْه. وَكَانَ مِثْلَ سَائِرِ إِخْوَتِهِ الْأَنْبِيَاءِ يَعْمَلُ لِإِقَامَةِ الْعَدْلِ فِي الْأَرْضِ وَرَفْعِ الظُّلْمِ عَنْ عِبَادِ اللَّه. فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَزْمَانُهُمْ وَأَمَاكِنُهُمْ، إِلَّا أَنَّهُمْ جَمِيعًا يَسْعَوْنَ لِتَحْقِيقِ نَفْسِ الْهَدَف. وَهُوَ إِقَامَةُ العَدْلِ فِي الْأَرْضِ بِأَوَامِرِ اللَّهِ تَعَالَى وَنَوَاهِيه. قَالَ ؐ: «أَنَا أَوْلَى النَّاسِ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلاَّت، أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِد».[4]
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
غَدًا رَأْسُ السَّنَةِ الْمِيلَادِيَّة. مِمَّا يَعْنِي أَنَّهُ قَدِ انْقَضَى مِنْ أَعْمَارِنَا سَنَةٌ كَامِلَةٌ أُخْرَى، وَأَنَّنَا اقْتَرَبْنَا مِنَ الْمَوْتِ سَنَةً كَامِلَةً أُخْرَى. فَلْنُحَاسِبْ أَنْفُسَنَا قَبْلَ أَنْ نُحَاسَبَ أَمَامَ اللَّهِ تَعَالَى. وَلْنَزِنْ أَعْمَالَنَا الْيَوْمَ قَبْلَ أَنْ تُوزَنَ لَنَا غَدًا. وَلْنَتَجَنَّبِ الْاِحْتِفَالَاتِ الْأَجْنَبِيَّةَ عَنَّا وَعَنْ دِينِنَا فِي هَذَا الْيَوْم. فَإِنَّهُ لَا فَرْقَ لَدَيْنَا بَيْنَ يَوْمِ الْغَدِ وَبَيْنَ أَيِّ يَوْمٍ آخَر. عَلَيْنَا أَنْ نَسْتَغِلَّ أَوْقَاتَنَا كُلَّهَا فِيمَا يُرْضِي رَبَّنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. فَلْنُرَاجِعْ أَنْفُسَنَا، وَلْنُخَطِّطْ لِمُسْتَقْبَلِنَا. وَلْنَحْفَظْ اللَّهَ تَعَالَى كَيْ يَحْفَظَنَا مَوْلَانَا.
أَسْأَلُ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَحْفَظَنَا بِحِفْظِهِ وَأَنْ يُوَفِّقَنَا لِمَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاه، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْه. آمِين.
[1] سورة آل عمران: 59
[2] سورة آل عمران: 52
[3] سورة آل عمران: 55
[4] صحيح البخاري، كتاب الأنبياء، 48
خُطْبَةُ الْجُمُعَة: نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَام