خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة – فَضِيلَةُ الصَّبْر
17.03.2022أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
إِنَّ مِنْ أَهَمِّ شَعَائِرِ الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ اَلصَّبْر. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ؐ: «مَنْ يَصْبِرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ، وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ مِنْ عَطَاءٍ خَيْرٌ وَأَوْسَعُ مِنَ الصَّبْر».[1] وَلَيْسَ مَعْنَى الصَّبْرِ أَنْ تُذْعِنَ لِلْبَلَاءِ وَالْمُصِيبَةِ فَتَسْتَسْلِمَ لَهَا. بَلْ الْمَطْلُوبُ مِنَ الْمُؤْمِنِ أَنْ يَصْمُدَ أمَامَ الْمَصَائِبِ وَالْاِبْتِلَاءَاتِ الَّتِي يُوَاجِهُهَا. فَالصَّبْرُ هُوَ الثَّبَاتُ أَمَامَ هَذِهِ الْأُمُورِ لِلتَّغَلُّبِ عَلَيْهَا بِإِذْنِ اللَّه.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
لَا شَكَّ أَنَّ لِلصَّبْرِ فَوَائِدَ وَثِمَارًا فِي الدَّارَيْنِ، دَارِ الدُّنْيَا وَالدَّارِ الْآخِرَة. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي مُحْكَمِ تِبْيَانِه: ﴿وَقُلْ يَا عِبَادِ الَّذٖينَ اٰمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْؕ لِلَّذٖينَ اَحْسَنُوا فٖي هٰذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌؕ وَاَرْضُ اللّٰهِ وَاسِعَةٌؕ اِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ اَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾.[2] فَأَخْبَر سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِعِظَمِ أَجْرِ عِبَادِهِ الصَّابِرِين. وَقَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾.[3] وَاقْتِرَانُ الصَّبْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالصَّلَاةِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَكْبَرِ فَرَائِضِ الْإِسْلَامِ تَحْمِلُ دَلَالَةً عَلَى مَكَانَةِ الصَّبْرِ وَأَهَمِّيَّتِهِ فِي الْإِسْلَام.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
وَكَمَا أَنَّ لِلصَّبْرِ جَوَانِبَ شَخْصِيَّةً فَرْدِيَّة، فَإِنَّ لَهُ أَيْضًا جَوَانِبَ وَآثَارًا اِجْتِمَاعِيَّة. فَالصُّعُوبَاتُ وَالْاِبْتِلَاءَاتُ اَلَّتِي نُوَاجِهُهَا فِي مَجْرَى حَيَاتِنَا الْعَادِيَّةِ لَا تَعْرِفُ اِنْتِهَاءً وَلَا انْقِطَاعًا. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ﴾.[4] وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَّا يُبْتَلَى، إِمَّا فِي صِحَّتِهِ فَيَمْرَض، أَوْ فِي مَالِهِ فَيَمُرُّ بِضَائِقَةٍ، أَوْ يُبْتَلَى فِي أُسْرَتِهِ وَعَائِلَتِهِ، وَهَكَذَا يَظَلُّ رَبُّنَا يَمْتَحِنُ عِبَادَهُ وَيَخْتَبِرُهُمْ حَتَّى نَلْقَاه. وَلَا حَيَاةَ تَخْلُو مِنَ الْاِمْتِحَانِ وَالْاِبْتِلَاءِ إِلَّا الْحَيَاةَ الآخِرَة اَلَّتِي وَعَدَ اللَّهُ بِهَا عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِين. أَمَّا هَذِهِ الْحَيَاةُ الَّتِي نَعِيشُهَا، فَلَنْ تَعْرَى عَنْ مَشَقَّةٍ وَعَنَاء، فَمَا إِنْ نَخْرُجْ مِنْ ضَائِقَةٍ حَتَّى نَجِدَ أَنْفُسَنَا فِي أُخْرَى تَتْبَعُهَا. لَكِنَّ الْمُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَا يَقْطَعُ أَمَلَهُ بِرَبِّهِ وَلَا يَقَعُ فِي الْيَأْسِ، وَيَعْلَمُ دَائِمًا أَنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا. اَلْمُؤْمِنُ يَتَوَكَّلُ عَلَى مَوْلَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَمَامَ الْمِحَنِ، وَيَسْتَعِينُ بِهِ فِي التَّغَلُّبِ عَلَيْهَا. وَفِي مُقَابِلِ صَبْرِهِ هَذَا يَمُدُّهُ اللُّهُ تَعَالَى بِطَاقَةٍ مَعْنَوِيَّةٍ وَيُقَوِّيِهِ عَلَى مَا هُوَ فِيه.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
لَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِنْسَانَ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ مَخْلُوقَاتِهِ؛ كَائِنًا اِجْتِمَاعِيًّا. فَلَا يَلِيقُ بِنَا كَمُسْلِمِينَ أَلَّا نَكْتَرِثَ بِمَا يَحْدُثُ حَوْلَنَا فِي الْمُجْتَمَعَاتِ الَّتِي نَعِيشُ فِيهَا. وَإِنَّ مِنْ وَاجِبِنَا أَنْ نُقَاوِمَ جَمِيعَ الْعَوَائِقِ الَّتِي تُوضَعُ أَمَامَ مُمَارَسَةِ الْمُسْلِمِينَ لِلشَّعَائِرِ الْإِسْلَامِيَّةِ فِي شَتَّى بِقَاعِ الْأَرْض. فَإِنَّ الْإِسْلَامَ قَدْ حَمَّلَنَا مَسْؤُولِيَّاتٍ اِجْتِمَاعِيَّةٍ أَيْضًا. فَالسَّعْيُ لِتَأْسِيسِ الْعَدَالَةِ وَالسَّلَامِ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَلِتَأْمِينِ التَّعَايُشِ بَيْنَ الطَّوَائِفِ الْمُخْتَلِفَةِ دَاخِلَ الْمُجْتَمَع، كُلُّ ذَلِكَ مِنْ وَاجِبَاتِ الْمُؤْمِن. ثُمَّ الصَّبْرُ وَالثَّبَاتُ أَمَامَ كُلِّ الصُّعُوبَاتِ الَّتِي يُوَاجِهُهَا فِي هَذَا السَّبِيلِ حَقٌّ عَلَيْه. اَلْمُسْلِمُ -أَيُّهَا الْإِخْوَة- يَبْدَأُ بِالدَّائِرَةْ الْأَقْرَبِ إِلَيْهِ فَالْأَقْرَب، وَيَرَى الْعَالَمَ كُلَّهُ أَمَانَةً عَلَيْهِ، وَيَشْعُرُ بِالْمَسْؤُولِيَّةِ تِجَاهَ النَّاسِ جَمِيعًا.
أَسْأَلُ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُبَصِّرَنَا بِمَسْؤُولِيَّاتِنَا تِجَاهَ عِبَادِهِ الْمَظْلُومِينَ وَالْمَسَاكِينَ، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا إِلَى الْقِيَامِ بِوَاجِبَاتِنَا، وَأَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يُثَبِّتَ أَقْدَامَنَا، وَيَرْزُقَنَا الصَّبْرَ عَلَى كُلِّ الْعَوَائِقِ الَّتِي نُوَاجِهُهَا فِي هَذَا السَّبِيل. إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْه. آمِين.
[1] صحيح مسلم، كتاب الزكاة، 124
[2] سورة الزمر: 10
[3] سورة البقرة: 153
[4] سورة البقرة: 155