خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة: حُقُوقُ الْوَالِدَيْن
09.06.2022أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
إِنَّ مِمَّا ابْتُلِينَا بِهِ فِي هَذَا الْعَصْرِ وَأَصْبَحَ يُؤَثِّرُ سَلْبًا عَلَى عَلَاقَاتِنَا الْاِجْتِمَاعِيَّةِ؛ مَا يُسَمَّى بِالْفَرْدِيَّة. فَقَدْ أَصْبَحَتِ الْفَرْدِيَّةُ اَلَّتِي تَعْنِي تَقْدِيمَ الْمَصَالِحِ الشَّخْصِيَّةِ عَلَى غَيْرِهَا، أَصْبَحَتْ طَبْعًا لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَرَسَّخَتِ الْبُخْلَ فِي شَخْصِيَّةِ كَثِيرٍ مِنْهُم. كَمَا أَضْعَفَتْ رَوْحَ التَّضْحِيَةِ لَدَى النَّاسِ، وَأَبْعَدَتْهُمْ عَنْ مَكَارِمِ الْوَفَاءِ وَالْإِيثَار. وَكَانَتْ مُؤَسَّسَةُ الْأُسْرَةِ اَلَّتِي تُعْتَبَرُ الْخَلِيَّةُ الْأَوَّلِيَّةُ لِأَيِّ مُجْتَمَع، كَانَتْ هَذِهِ الْمُؤَسَّسَةُ هِيَ أَكْثَرَ مَنْ تَأَثَّرَتْ مِنْ أَضْرَارِ هَذِهِ الْبَلِيَّة. إِنَّنَا نَعِيشُ فِي وَقْتٍ ضَعُفَتْ فِيهِ الْعَلَاقَاتُ الْأُسَرِيَّةُ، وَأَصْبَحَ فِيهِ النَّاسُ سُجَنَاءَ أَنْفُسِهِمْ، أَسَرَتْهُمُ الْوَحْدَةُ وَالْفَرْدِيَّة. فَقَدْ صَارَ الْاِكْتِئَابُ وَالضَّغْطُ النَّفْسِيُّ بِسَبَبِ الْوَحْدَةِ مِنَ الْأَمْرَاضِ الَّتِي تَجْتَاحُ مُجْتَمَعَاتِنَا. وَطَرِيقُ التَّغَلُّبِ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ هُوَ أَنْ تَسْتَعِيدَ الْأُسْرَةُ اِعْتِبَارَهَا وَمَكَانَتَهَا فِي الْمُجْتَمَعِ، وَأَنْ نَرْعَى حُقُوقَ الْأَبَوَيْنِ، اَلَّذَيْنِ يُشَكِّلَانِ رُكْنَيْ كُلَّ أُسْرَة.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
إِنَّ مِنْ أَبْرَزِ مَزَايَا الْأَخْلَاقِ الْإِسْلَامِيَّةِ؛ قُدْسِيَّةُ حُقُوقِ الْوَالِدَيْنِ فِيهَا. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْاِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِۚ حَمَلَتْهُ اُمُّهُ وَهْناً عَلٰى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فٖي عَامَيْنِ اَنِ اشْكُرْ لٖي وَلِوَالِدَيْكَ ؕ اِلَيَّ الْمَصٖيرُ﴾.[1] فَبِرُّ الْوَالِدَيْنِ هُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَوَامِرِ الْوَارِدَةِ فِي الْإِسْلَام. وَقَدْ عُدَّ عُقُوقُهُمَا مِنَ الْكَبَائِر. فَقَدْ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ أَنَّهُ قَالَ لِأَصْحَابِه: «أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِر؟» – ثَلاَثاً – قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّه، قَال: «اَلْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْن».[2]
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
لَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ بِشَكْلٍ لَمْ يَدَعْ بِهِ مَجَالًا لِلشَّكِّ فِي وُجُوبِ هَذَا الْأَمْرِ عَلَى كُلِّ مُسْلِم. قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا ﴿٢٣﴾ وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾.[3] وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ؐ: «رِضَا اللَّهِ فِي رِضَا الْوَالِدَيْنِ، وَسَخَطُ اللَّهِ فِي سَخَطِ الْوَالِدَيْن».[4]
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
عَلَيْنَا أَنْ نَكُونَ حَسَّاسِينَ تُجَاهَ أَبَوَيْنَا، خُصُوصًا حِينَمَا يَكْبُرُونَ فِي السِّنّ. عَلَيْنَا أَنْ نَحْذَرَ مِنْ كَسْرِ خَوَاطِرِهِم. قَالَ ؐ: «رَغِمَ أنْف، ثُمَّ رَغِمَ أنْف، ثُمَّ رَغِمَ أنْف» قِيلَ: مَنْ يَا رَسولَ اللهِ؟ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا فَلَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّة».[5] فَالْإِحْسَانُ الَّذِي نُسْدِيهِ لِوَالِدَيْنَا سَيَجْزِينَا اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَة. وَكَذَلِكَ عُقُوقُ الْوَالِدَيْن، لَنْ يَبْقَى بِلَا عِقَابٍ فِي الْآخِرَة.
إِخْوَتِي! لَا تُوَلُّوهُمْ ظُهُورَكُمْ، وَاجْبُرُوا خَوَاطِرَهُمْ دَائِمًا. رُبَّمَا مَنَعَتْنَا فَتْرَةُ الْجَائِحَةِ هَذِهِ مِنْ زِيَارَتِهِم، فَلَا نُهْمِلْ ذَلِكَ الْآن. وَلْنَصِلْ آبَاءَنَا وَأَقَارِبَنَا فِي إِجَازَاتِنَا.
أَسْأَلُ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُعِينَنَا عَلَى بِرِّ وَالِدَيْنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا نَيْلَ رِضَاهُمْ فِي الدُّنْيَا وَرِضَاهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآخِرَة. إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْه. آمِين.
[1] سورة لقمان: 14
[2] صحيح البخاري، كتاب الأدب، 6
[3] سورة الإسراء: 23-24
[4] سنن الترمذي، كتاب البر، 3/1899
[5] صحيح مسلم، كتاب البر، 9، 10