خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة: حُرْمَةُ السِّتْرِ وَأَهَمِّيَّةُ التَّسَتُّر
26.05.2022أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
إِنَّ مِنْ قَضَايَا الْعَصْرِ الْحَدِيثِ الَّتِي تَزُجُّ الْإِنْسَانَ فِي الْمَأَزَقِ؛ ثَقَافَةُ الْإِشْهَار، اَلَّتِي أَصْبَحَتْ نَمَطَ حَيَاةٍ لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاس. وَنَعْنِي بِثَقَافَةِ الْإِشْهَارِ؛ أَنْ يُظْهِرَ الْإِنْسَانُ وَيُعْلِنَ مَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُكْتَمَ وَلَا يَطَّلِعَ عَلَيْهِ النَّاس. فَالْبَشَرِيَّةُ اِنْحَطَّتْ عَنْ مُسْتَوَى “أَنَا أُفَكِّر، إِذَنْ أَنَا مَوْجُود”، إِلَى مُسْتَوَى “أَنَا مُلَاحَظٌ وَمُشَاهَد، إِذَنْ أَنَا مَوْجُود”. فِي حِينِ أَنَّ السَّتْرَ سُنَّةٌ أَخْلَاقِيَّةٌ أَكَّدَ عَلَيْهَا جَمِيعُ الْأَنْبِيَاء، اِبْتِدَاءً مِنْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَام، إِلَى سَيِّدِنَا رَسُولِ اللَّهِ ؐ. وَيَدْخُلُ فِي إِطَارِ السَّتْرِ وَالتَّسَتُّرِ هَذَا؛ اَلْخُصُوصِيَّةُ الشَّخْصِيَّةُ لِلْإِنْسَان. بِمَعْنَى الْحِفَاظِ عَلَى خُصُوصِيَّةِ جَمِيعِ شُؤُونِهِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَبْقَى خَاصَّةً بِهِ وَلَا يَطَّلِعَ عَلَيْهَا غَيْرُه.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
إِنَّ التَّسَتُّرَ وَالْمُحَافَظَةَ عَلَى السِّتْرِ مَبْدَأٌ مِنْ أَهَمِّ مَبَادِئِ الْإِسْلَامِ الْأَخْلاَقِيَّة. وَهُوَ مَبْدَأٌ ذُو جَانِبَيْن. جَانِبٌ يَتَعَلَّقُ بِشَخْصِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ، وَجَانِبٌ يَتَعَلَّقُ بِالْمُجْتَمَعِ مِنْ حَوْلِه. أَمَّا الْجَانِبُ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِشَخْصِ الْإِنْسَانِ نَفْسِهِ، فَهُوَ يَتَمَحْوَرُ حَوْلَ مَشَاعِرِ الْأَدَبِ وَالْحَيَاء. وَقَدْ نَبَّهَنَا رَسُولُ اللَّهِ ؐ عَلَى أَهَمِّيَّةِ الْحَيَاءِ حِينَ قَال: «اَلْحَيَاءُ مِنَ الْإِيمَان».[1] وَأَمَّا إِشْهَارُ الْأَحْوَالِ الْخَاصَّةِ وَإِعْلَانُهَا لِعَامَّةِ النَّاسِ، فَهُوَ بِأَخَفِّ تَعْبِير؛ إِسَاءَةُ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى وَمَعَ الْمُجْتَمَع. وَلَكِنَّ الْمُؤْسِفَ أَنَّ الْأَحْوَالَ الْخَاصَّةَ لِلنَّاسِ، يَتِمُّ الْيَوْمَ عَرْضُهَا وَإِعْلَانُهَا عَلَى الْمَلَإِ بِوَاسِطَةِ مِنَصَّاتِ التَّوَاصُلِ الْاِجْتِمَاعِيِّ، دُونَ اكْتِرَاثٍ بِأَيَّةِ قِيمَةٍ أَوْ مَبْدَأٍ أَخْلَاقِيّ. بَلْ قَدْ يَصِلُ الْأَمْرُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ إِلَى هَتْكِ الْخُصُوصِيَّةِ الْعَائِلِيَّةِ وَإِفْشَاءِ أَحْوَالِهَا الْخَاصَّة. بَيْنَمَا الْوَاجِبُ أَنْ تَبْقَى هَذِهِ الْأُمُورُ مَكْتُومَةً مَسْتُورَة.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
إِنَّ الْجَانِبَ الْآخَرَ لِمَبْدَأِ التَّسَتُّرِ، وَالْمُتَعَلِّقَ بِالْمُجْتَمَعِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، لَا يَقِلُّ أَهَمِّيَّةً عَنِ الْجَانِبِ الْأَوَّل. وَهُوَ يُمَثِّلُ اِحْتِرَامَ الْمُجْتَمَعِ لِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّةِ وَتَقْدِيرَهُمْ لَهَا. وَقَدْ أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْنَا هَذَا الْاِحْتِرَامَ، وَأَشَارَ إِلَى هَذَا الْوَاجِبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿وَلَا تَجَسَّسُوا﴾.[2] وَانْظُرُوا إِلَى دِقَّةِ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ ؐ: «إِذَا حُدِّثَ الْإِنْسَانُ حَدِيثًا، وَالْمُحَدِّثُ يَتَلَفَّتُ حَوْلَهُ، فَهُوَ أَمَانَة».[3]
وَإِنَّ مُرَاسَلَاتِ النَّاسِ وَأَشْيَاءَهُمُ الْخَاصَّةَ بِهِمْ أَيْضًا دَاخِلَةٌ فِي هَذِهِ الْخُصُوصِيَّة، اَلَّتِي يَجِبُ عَلَيْنَا احْتِرَامُهَا وَعَدَمُ هَتْكِهَا. فَلَيْسَ لِأَحَدٍ اَلْاِطِّلَاعُ عَلَيْهَا إِلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهَا. فَعَلَيْنَا جَمِيعًا، مَهْمَنْ كُنَّا، أَنْ نَحْذَرَ مِنْ هَتْكِ هَذَا السِّتْرِ وَالْإِخْلَالِ بِهَذِهِ الْخُصُوصِيَّة.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
لَا شَكَّ أَنَّ أَخَصَّ أَحْوَالِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ فِي بَيْتِهِ الَّذِي يُقِيمُ فِيهِ لِوَحْدِهِ أَوْ مَعَ أَهْلِه. لِذَا كَانَتْ لِلْبُيُوتِ حُرْمَةٌ خَاصَّة. وَهَذِهِ الْحُرْمَةُ، كَمَا تُوجِبُهَا عَلَيْنَا دِينُنَا الْإِسْلَام، فَإِنَّهَا تُوجِبُهَا كَذَلِكَ الْمَدَنِيَّةُ وَالْحَضَارَةُ الْإِنْسَانِيَّة. قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّىٰ تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَىٰ أَهْلِهَا ۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾.[4] فَلِلْبُيُوتِ حُرْمَةٌ وَآدَاب. وَمِنْ آدَابِهَا؛ اَلْاِسْتِئْذَانُ وَالسَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الْبَيْتِ عِنْدَ دُخُولِهَا. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ؐ: «لاَ يَحِلُّ لِامْرِئٍ أَنْ يَنْظُرَ فِي جَوْفِ بَيْتِ امْرِئٍ حَتَّى يَسْتَأْذِن، فَإِنْ نَظَرَ فَقَدْ دَخَل».[5] فَعَلَيْنَا أَنْ نَحْمِيَ حُرْمَةَ بُيُوتِنَا، حَتَّى مِنْ أَنْ تَقَعَ عَلَيْهَا أَعْيُنُنَا بِلَا إِذْن. وَلْنَعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَبَادِئَ كُلَّهَا مَبَادِئُ إِسْلَامِيَّة.
أَسْأَلُ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّنْ حَافَظُوا عَلَى سِتْرِهِ فِي الدُّنْيَا، فَسَتَرَ لَهُمْ عُيُوبَهُمْ فِي الْآخِرَة. إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ. آمِين.
[1] صحيح البخاري، كتاب الإيمان، 16
[2] سورة الحجرات: 12
[3] سنن الترمذي، كتاب البر، 39؛ سنن أبي داود، كتاب الأدب، 32
[4] سورة النور: 27
[5] سنن الترمذي، كتاب الصلاة، 148
خُطْبَةُ الْجُمُعَة: حُرْمَةُ السِّتْرِ وَأَهَمِّيَّةُ التَّسَتُّر