خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة: تَزْكِيَةُ النَّفْس
04.08.2022أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْإِنْسَانَ وَجَعَلَهُ مُرَكَّبًا مِنَ الرُّوحِ وَالْجَسَد. وَالْإِنْسَانُ الَّذِي هُوَ أَشْرَفُ الْمَخْلُوقَاتِ، وَإِنْ كَانَ يَفْضُلُ عَلَى سَائِرِ الْمَخْلُوقَاتِ مِنْ حَيْثُ الشَّكْلِ وَالصُّورَةِ، إِلَّا أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يُمَيِّزُهُ أَسَاسًا عَنِ الْمَخْلُوقَاتِ الْأُخْرَى هُوَ الْجَانِبُ الرُّوحِيُّ فِيه. قَالَ تَعَالَى فِي خَلْقِ الْإِنْسَان: ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ ۖ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۚ قَلِيلًا مَّاتَشْكُرُونَ﴾.[1] فَالْإِنْسَانُ يَحْمِلُ هَذَا الرُّوحَ أَمَانَةً مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى أَنْ يَتَوَفَّاهُ اللَّهُ، فَيَعُودُ إِلَيْهِ سُبْحَانَهُ مَا كَانَ مِنْهُ. فَمَا نَحْنُ إِلَّا كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنِ الْإِنْسَانِ: ﴿إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾.[2] وَخِلَالَ رِحْلَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا هَذِهِ يَبْتَلِينَا اللَّهُ تَعَالَى، فَيَنْظُرُ هَلْ نَسْعَى فِي رَدِّ أَمَانَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِ، كَمَا أَخَذْنَاهُ مِنْهُ طَيِّبًا طَاهِرًا أَمْ لَا. وَطَرِيقُ الْفَوْزِ فِي هَذَا الْاِخْتِبَارِ هُوَ تَرْبِيَةُ رَغَبَاتِ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتُهَا مِنْ كُلِّ مَا يُعَكِّرُ عَلَى الرُّوحِ صَفَاءَه.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
اَلنَّفْسُ مِنْ خَصَائِصِ الرُّوح. وَهِي تَظَلُ تُلَقِّنُ الْإِنْسَانَ اِرْتِكَابَ الْمَعَاصِي وَالْمُوبِقَات. وَكُلَّمَا اسْتَجَابَ الْإِنْسَانُ لِرَغَبَاتِ النَّفْسِ الَّتِي لَا تَنْتَهِي، اِزْدَادَتِ النَّفْسُ قُوَّةً. وَكُلَّمَا عَمِلَ الْإِنْسَانُ الصَّالِحَاتِ وَاتَّقَى اللَّهَ تَعَالَى، ضَعُفَتِ النَّفْس. وَقَدْ أَلْفَتَ اللَّهُ تَعَالَى اِنْتِبَاهَنَا إِلَى خُطُورَةِ النَّفْسِ وَقَالَ: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ۖ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِك﴾.[3] وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ؐ يَقُولُ: «اَلَّلهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا».[4] وَلَقَدْ عَرَفَ عُلَمَاؤُنَا وَأَئِمَّتُنَا خُطُورَةَ النَّفْسِ إِذَا تُرِكَتْ لِحَالِهَا، فَكَانَ مِنْ دُعَائِهِمْ: “اَلَّلهُمَّ لَا تَكِلْنَا إِلَى أَنْفُسِنَا طَرْفَةَ عَيْنٍ وَلَا أَقَلَّ مِنْ ذَلِك”.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
إِنَّنَا نَعِيشُ فِي زَمَنٍ تُثَارُ فِيهِ رَغَبَاتُ النَّفْسِ وَتُهَيَّجُ بِوَسَائِلَ وَطُرُقٍ شَتَّى. وَقَدْ أَصْبَحَ النَّاسُ وَكَأَنَّهُمْ أَلَّهُوا شَهَوَاتِهِمْ وَاسْتَعْبَدَتْهُمْ نُفُوسُهُمْ، وَصَارَتْ حَيَاتُهُمْ عِبَارَةً عَنِ الْجَرْيِ وَرَاءَ الشَّهَوَاتِ وَزِينَةِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. وَأَضْحَتِ الْبَشَرِيَّةُ الْيَوْمَ فِي أَشَدِّ الْحَاجَةِ إِلَى أَخْلَاقِ الْإِسْلَام. وَلَا غِنَى لَنَا فِي هَذَا الزَّمَنِ عَنْ أَنْ نَلْجَأَ إِلَى الْإِكْثَارِ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ ؐ اَلَّذِي يَقُولُ فِيه: «(اَلَّلهُمَّ) اهْدِنِى لِأَحْسَنِ الْأَخْلاَقِ، لاَ يَهْدِى لِأَحْسَنِهَا إِلاَّ أَنْت، وَاصْرِفْ عَنِّي سَيِّئَهَا، لاَ يَصْرِفُ عَنِّي سَيِّئَهَا إِلاَّ أَنْت».[5] عَلَيْنَا أَنْ نُزَكِّيَ أَنْفُسَنَا وَأَنْ نُرَبِّيَهَا بِتَرْبِيَةِ الْإِسْلَام، وَأَنْ نَلْجَأَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى بِالدُّعَاءِ بَعْدَ كُلِّ صَلَاة. وَلْنَعْلَمْ أَنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَانَا عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَر.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ؐ: «اَلْكَيِّسُ مَن دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْت، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الْأَمَانِيّ».[6] فَالْاِسْتِسْلاَمُ لِلنَّفْسِ وَاتِّبَاعُ شَهَوَاتِهَا وَالْعَجْزُ عَنْ مُقَاوَمَتِهَا يَجُرُّنَا إِلَى الْمَهَالِكِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّه. قَالَ تَعَالَى: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلٰوةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا﴾.[7] فَمَنْ أَرَادَ الْفَلَاحَ فَعَلَيْهِ بِاتِّبَاعِ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْاِقْتِدَاءِ بِسُنَّةِ نَبِيِّهِ ؐ.
أَسْأَلُ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُعِينَنَا عَلَى تَزْكِيَةِ نُفُوسِنَا وَعَلَى التَّحَلِّي بِأَخْلَاقِ نَبِيِّهِ ؐ. إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْه. آمِين.
[1] سورة السجدة: 9
[2] سورة البقرة: 156
[3] سورة النساء: 79
[4] سنن الدارمي، كتاب النكاح، 20؛ سنن ابن ماجه، كتاب النكاح، 19
[5] صحيح مسلم، كتاب المسافرين، 201
[6] سنن الترمذي، كتاب القيامة، 25/2459؛ سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، 31
[7] سورة مريم: 59