خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة: اَلْعُنْصُرِيَّةُ مِنْ بَقَايَا الْجَاهِلِيَّة
30.06.2022أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
كَانَ النَّاسُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ، يَعِيشُونَ فِي ظُلُمَاتِ الْجَاهِلِيَّة. وَكَانَتِ الْعُنْصُرِيَّةُ وَالْعَصَبِيَّةُ حِينَئِذٍ تَسُودُ الْمُجْتَمَع. وَيَتَفَاضَلُ النَّاسُ بِالنَّسَبِ وَالْقَبِيلَةِ وَالْمَال. فَكَانَتِ الْغَلَبَةُ لِلْغَنِيِّ عَلَى الْفَقِيرِ، وَلِلْقَوِيِّ عَلَى الضَّعِيف. وَكَانَ أَقَلُّ إِهَانَةٍ مِنْ أَحَدِهِمْ عَلَى الْآخَرِ، تَجُرُّ قَبَائِلَ بِأَكْمَلِهَا إِلَى وَيْلاَتِ الْحُرُوب. فَفِي هَذِهِ الْحَالِ، أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا ؐ لِيُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّور. فَأَتَى ؐ وَمَحَقَ مَفْهُومَ الْعُنْصُرِيَّةِ لَدَيْهِمْ، وَقَالَ: «يَا أَيُّهَا النَّاس، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِد، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِد. أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى أَعْجَمِيّ، وَلَا لِأَعْجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيّ، وَلَا لِأَحْمَرَ عَلَى أَسْوَد، وَلَا لِأَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى».[1] فَبَيَّنَ أَنَّ التَّفَاضُلَ بَيْنَ النَّاسِ لَا يَكُونُ إلَّا بِتَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
لَا فَضْلَ لِأَحَدٍ عَلَى أَحَدٍ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا بِالتَّقْوَى. فَلَا يَفْضُلُ أَحَدٌ بِلَوْنٍ أَوْ عِرْقٍ أَوْ نَسَبٍ أَوْ جِنْس. وَلَمْ يَفْهَمْ مِنْ حِكْمَةِ الْخَلْقِ شَيْئًا؛ مَنِ اسْتَهْزَأَ بِالنَّاسِ لِجِنْسِهِمْ أَوْ نَسَبِهِم. فَكَمَا لَا يَكُونُ لِأَحَدٍ أَنْ يَخْتَارَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، فَلَيْسَ لِأَحَدٍ كَذَلِكَ أَنْ يَخْتَارَ مِنْ أَيِّ عِرْقٍ يَكُونُ، وَإِلَى أَيِّ بَلَدٍ يَنْتَسِب. وَلَقَدْ سَبَّبَتِ الْعُنْصُرِيَّةُ فِي انْدِلَاعِ حُرُوبٍ كَثِيرَةٍ فِي التَّارِيخِ، وَفِي تَهْجِيرِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ مِنْ دِيَارِهِم، وَقَتْلِهِمْ ظُلْمًا. وَكَانَ أَكْبَرُ ضَحَايَا هَذِه الْمَصَائِبِ هُمُ النِّسَاءُ والْأَطْفَالُ وَالْمُسِنُّونَ الْأَبْرِيَاء.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
لِنَذْكُرْ مَا حَدَثَ فِي سرَبْرَنِيتْسَا، فِي 11 (إِحْدَى عَشَر) تَمُّوزْ سَنَة 1995 (تِسْعَة وَخَمْسِين). حَيْثُ قُتِلَ إِخْوَانُنَا الْبُوسْنَوِيُّونَ ظُلْمًا فِي وَسَطِ أُورُبَّا، وَبِمَرْئًى وَمَسْمَعٍ مِنَ الْعَالَم. لَا لِسَبَبٍ إِلَّا لِدِينِهِم. وَكُلُّنَا نَعْلَمُ الْمُعَامَلَاتِ اللَّاإِنْسَانِيَّةِ اَلَّتِي تَعَرَّضَ لَهَا اللَّاجِئُونَ فِي السَّنَوَاتِ الْأَخِيرَة. فَالدِّعَايَةُ الْعُنْصُرِيَّةُ الَّتِي يَمْتَهِنُهَا بَعْضُ النَّاسِ الْيَوْمَ، لَيْسَتْ إِلَّا جَرِيمَةً ضِدَّ الْإِنْسَانِيَّة. وَلَم نَنْسَ بَعْدُ، اَلْحُزْنَ وَالْأَلَمَ الَّذِي عِشْنَاهُ بِسَبَبِ حَادِثَةِ هَانَاوْ اَلَّتِي قُتِلَ فِيهَا شَبَابٌ مِنْ بِلَادٍ وَأَدِيَانٍ مُخْتَلِفَة. وَلَا زَالَتْ ذَاكِرَتُنَا تَحْتَفِظُ بِصُورَةِ الْفَتَاةِ الْمِصْرِيَّةِ النَّازِحَة، مَرْوَة اَلشِّرْبِينِي، اَلَّتِي كَانَتْ عُمْرُهَا 32 (اِثْنَيْن وَثَلَاثِينَ) سَنَة، وَالَّتِي قُتِلَتْ عَلَى يِدِ شَخْصٍ عُنْصُرِيٍّ فِي الْمَحْكَمَةِ، أَمَامَ أَعْيُنِ الْقَاضِي وَالْمُوَظَّفِين. وَلَا تَسْأَلُوا عَنْ وَجَعِ الْأًسَرِ الَّذِينَ وَقَعَ أَوْلَادُهُمْ ضَحَايَا لِجَرَائِمِ تَنْظِيمِ (اَلْأَنْ، أَسْ، يُو) اَلْعُنْصُرِيَّة. فَلِكَيْ تَهْنَأَ الْمُجْتَمَعُ بِالْأَمْنِ وَالسَّلَامِ، لَا بُدَّ عَلَى جَمِيعِ طَوَائِفِ الْمُجْتَمَعِ أَنْ يُكَافِحُوا مَرَضَ الْعُنْصُرِيَّةِ هَذِه، وَأَنْ يَتَقَبَّلُوا الْآخَرَ، وَيَعْلَمُوا أَنَّ هَذَا الْاِخْتِلَافَ غِنًى وَرَحْمَةٌ، وَأَنَّ فِيهِ عِبَرٌ كَثِيرَةٌ لِمَنْ تَدَبَّر. قَالَ تَعَالَى: ﴿وَمِنْ اٰيَاتِهٖ خَلْقُ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافُ اَلْسِنَتِكُمْ وَاَلْوَانِكُمْؕ اِنَّ فٖي ذٰلِكَ لَاٰيَاتٍ لِلْعَالِمٖينَ﴾.[2]
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
اَلْعُنْصُرِيَّةُ، لَا دِيْنَ لَهَا، وَلَا مِلَّةَ لَهَا، وَلَا لَوْن. اَلْعُنْصُرِيَّةُ مَرَضٌ لَعَنَهُ جَمِيعُ الْأَدْيَان. وَلَيْسَ السَّاكِتُ عَنْهَا بِأَقَلَّ جُرْمًا مِنَ الْفَاعِلِ لَهَا. قَالَ ؐ: «إِنَّ النَّاسَ إِذَا رَأَوْا ظَالِمًا فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ، أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابٍ مِنْه».[3] لَا تَنْسَوْا الْمَظَالِمَ الَّتِي جَرَتْ فِي سَبِيلِ الْعُنْصُرِيَّة. وَاجْتَهِدُوا فِي أَلَّا يَنْتَقِلَ هَذَا الْمَرَضُ إِلَى الأَجْيَالِ النَّاشِئَة. وَتَذَكَّرُوا أَنَّنَا جَمِيعًا أَوْلَادُ آدَم.
وَبِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ، أَذْكُرُ جَمِيعَ ضَحَايَا الْعُنْصُرِيَّةِ بِالرَّحْمَةِ، وَأَخْتِمُ خُطْبَتِي بِقَوْلِهِ ؐ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّة، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَصَبِيَّةً، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّة».[4]
[1] مسند أحمد، الحديث رقم: 23489
[2] سورة الروم: 22
[3] سنن أبي داود، كتاب الملاحم، 17
[4] سنن أبي داود، كتاب الأدب، 111-112
خُطْبَةُ الْجُمُعَة: اَلْعُنْصُرِيَّةُ مِنْ بَقَايَا الْجَاهِلِيَّة