خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة: اَلشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِن
10.11.2022أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْكَوْنَ وَمَا فِيهِ مِنْ كَائِنَاتٍ وَفْقَ نِظَامٍ وَفِي تَوَازُنٍ دَقِيق. وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الْكَائِنَاتِ شَيْءٌ ثَابِتٌ لَا يَتَحَرَّك. بَلِ الْكُلُّ يُسَبِّحُ اللَّهَ تَعَالَى فِي حَرَكَةٍ دَائِمَةٍ، وَتُؤَدِّي الْوَظِيفَةَ الَّتِي خُلِقَ مِنْ أَجْلِهَا. وَإِنَّ فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ كَذَلِكَ حَرَكَةً مِنْ هَذَا النَّوْع. فَإِنَّ حَيَاةَ الْإِنْسَانِ أَيْضًا لَا تَتَوَقَّفُ، بَلْ تَمُرُّ بِمَرَاحِلَ تَعْقُبُ بَعْضُهَا بَعْضًا. هَكَذَا يَعِيشُ الْإِنْسَانُ فِي بِدَايَةِ حَيَاتِهِ وَطُفُولَتِهِ رَبِيعَ عُمْرِهِ، ثُمَّ يَعِيشُ صَيْفَهُ فِي شَبَابِهِ، ثُمَّ يَمُرُّ بِخَرِيفِ عُمْرِهِ فِي مَرْحَلَةِ نُضْجِهِ وَاسْتِوَائِه، وَأَخِيرًا تَحُلُّ الشِّتَاءُ فِي حَيَاتِهِ فَيَعْجَزُ وَيُتَوَفَّى. وَلِكُلِّ مَرْحَلَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَرَاحِلِ مِيزَاتُهُ وَمَصَاعِبُه، كَمَا أَنَّ لِكُلِّ مَرْحَلَةٍ مِنْهَا نِعَمٌ خَاصَّةٌ يَتَمَتَّعُ بِهَا الْإِنْسَانُ حِينًا ثُمَّ تَخْتَفِي مَعَ ذَهَابِ فَصْلِهَا. وَنَحْنُ إِنْ شَكَرْنَا هَذِهِ النِّعَمَ وَاسْتَغْلَلْنَاهَا فِيمَا خُلِقَتْ مِنْ أَجْلِهَا، رَجَوْنَا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُسْعِدَنَا فِي دَارِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَة.
إِنَّ اخْتِلَافَ الْفُصُولِ وَتَعَاقُبَهَا لَا تُؤَثِّرُ عَلَى الطَّبِيعَةِ فَقَط، بَلْ إِنَّ لَهَا آثَارًا نَفْسِيَّةً كَذَلِكَ عَلَى الْإِنْسَان. فَالْحَيَوِيَّةُ وَالْاِنْفِتَاحُ الَّذِي نَجِدُهُ فِي الطَّبِيعَةِ فِي فَصْلَيِ الرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ، نَجِدُهُ كَذَلِكَ فِي نُفُوسِ النَّاسِ فِي هَذِهِ الْفُصُول. كَذَلِكَ نُشَاهِدُ كَيْفَ أَنَّ النَّاسَ يَكُونُونَ أَكْثَرَ اكْتِئَابًا فِي الْأَيَّامِ الْغَائِمَةِ وَالْبَارِدَة.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
وَفِي إِطَارِ تَعَاقُبِ الْفُصُولِ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ؐ أَنَّهُ لَفَتَ اِنْتِبَاهَ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أَهَمِّيَّةِ الشِّتَاءِ وَكَوْنِهِ فُرْصَةً لِلْمُؤْمِنِ، حَيْثُ قَال: «اَلشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِن، طَالَ لَيْلُهُ فَقَامَه، وَقَصُرَ نَهَارُهُ فَصَامَه».[1]
نَعَم، إِنَّ هَذَا الْفَصْلَ فُرْصَةٌ لِلْمُؤْمِنِ، يَنْبَغِي اِسْتِغْلَالَهُ وَالْاِعْتِيَادِ فِيهِ عَلَى اِغْتِنَامِ الْأَوْقَاتِ فِيمَا يَنْفَعُنَا. قَالَ تَعَالَى: ﴿اِنَّ فٖي خَلْقِ السَّمٰوَاتِ وَالْاَرْضِ وَاخْتِلَافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَاٰيَاتٍ لِاُولِي الْاَلْبَاب﴾.[2] فَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَتَدَبَّرَ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَأَنْ يَسْتَفِيدَ مِنَ الْفُرَصِ الَّتِي يَمْنَحُهَا لَهُ هَذَا الْاِخْتِلَافِ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَبَيْنَ الْفُصُولِ الْمُخْتَلِفَة.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
إنَّ فَصْلَ الشِّتَاءِ فَصْلُ تَرْبِيَةِ النُّفُوس. هُوَ فَصْلُ إِتْمَامِ الْأُمُورِ الَّتِي شَرَعْنَا فِيهَا وَلَمْ نُتَمِّمْهَا. اَلشِّتَاءُ فُرْصَةٌ لِمَنْ لَمْ يَلْتَزِمْ بَعْدُ بِالصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَة. فَإِنَّ تَعَاقُبَ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ بِسُرْعَةٍ فِي الشِّتَاءِ تُسَهِّلُ الْاِعْتِيَادَ عَلَى إِقَامَةِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ الْمَفْرُوضَة.
اَلشِّتَاءُ فُرْصَةٌ لِإِتْمَامِ قِرَاءَةِ الْكُتُبِ الَّتِي طَالَمَا أَرَدْنَا قِرَاءَتَهَا، وَلِإِتْمَامِ تِلَاوَتِنَا لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ وَخَتْمِهَا، وَلِحِفْظِ السُّوَرِ الَّتِي لَمْ نَحْفَظْهَا بَعْد. فَعَلَيْنَا بِالْإِقْبَالِ عَلَى هَذِهِ الْأُمُورِ فِي هَذِهِ الْأَيَّامِ الْمُبَارَكَة. فَإِنَّ الصَّحَابَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، كَانُوا يَتَرَقَّبُونَ حُلُولَ هَذَا الْفَصْلِ، وَيَسْتَغِلُّونَهُ بِالْإِكْثَارِ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالنَّوَافِل. عَلَيْنَا نَحْنُ أَيْضًا أَنْ نَغْتَنِمَ هَذَا الْفَصْلَ مَعَ أُسْرَتِنَا، وَأَنْ نَجْعَلَهُ فَصْلَ الْفُرَصِ وَالْبَرَكَةِ لِأُسْرَتِنَا.
وَلْنَحْرِصْ عَلَى حُضُورِ الْجَمَاعَاتِ فِي الْمَسْجِد، فَإِنَّ ذَلِكَ سَيَكُونُ أَيْسَرَ فِي الشِّتَاءِ إِنْ شَاءَ اللَّه. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ؐ: «مَنْ غَدَا إِلَى الْمَسْجِدِ وَرَاحَ، أَعَدَّ اللَّهُ لَهُ نُزُلَهُ مِنَ الْجَنَّةِ كُلَّمَا غَدَا أَوْ رَاح».[3] وَتَعْلَمُونَ كَمْ كَانَ النَّبِيُّ ؐ حَرِيصًا عَلَى حُضُورِ الْمُسْلِمِينَ لِلْجَمَاعَاتِ فِي الْمَسْجِد.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
إِذَا ضَيَّعْنَا أَوْقَاتَنَا فِيمَا لَا يَنْفَعُنَا، وَلَمْ نَعْتَدْ عَلَى اِغْتِنَامِ أَوْقَاتِنَا فِيمَا فِيهِ خَيْرُنَا وَصَلَاحُنَا، صَعُبَ عَلَيْنَا الْوُصُولُ إِلَى تِلْكَ الْمَنْزِلَة اَلَّتِي نُرْضِي فِيهَا رَبَّنَا عَزَّ وَجَلّ. فَلْنَحْرِصْ عَلَى اِغْتِنَامِ فَصْلِ الشِّتَاءِ هَذَا، لِيَكُونَ ذَلِكَ وَسِيلَةً لِتَقَرُّبِنَا إِلَى مَوْلَانَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَوَسِيلَةً لِلْاِسْتِعْدَادِ لِشُهُورِ رَجَبَ وَشَعْبَانَ وَرَمَضَانَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
أَسْأَلُ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُبَارِكَ لَنَا فِي أَوْقَاتِنَا، وَأَنْ يُوَفِّقَنَا إِلَى مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاه. إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْه. آمِين!
[1] مسند أحمد، 3/75؛ مسند أبي يعلى 2/519
[2] سورة آل عمران: 190
[3] صحيح البخاري، كتاب الأذان، 37؛ صحيح مسلم، كتاب المساجد، 285