خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة – اَلتَّوَكُّلُ عَلَى اللَّه
01.09.2022أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
إِنَّ الْإِنْسَانَ كَائِنٌ ذُو جَانِبَيْن، جَانِبٌ بَدَنِيٌّ وَجَانِبٌ رُوحِيّ. فَهُوَ لَا يَقْتَصِرُ عَلَى كَيَانِهِ الْبَدَنِيِّ الْمَّادِّيِّ فَقَط. بَلْ إِنَّ أَصْلَهُ وَأَسَاسَهُ هُوَ الرُّوحُ الَّذِي نَفَخَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِيه. فَلَا يَتَحَقَّقُ سَعَادَةُ الْإِنْسَانِ مَا لَمْ يُطَوِّرْ هَذَا الْجَانِبَ الْأَسَاسِيَّ فِيهِ، وَمَا لَمْ يَكْشِفِ الْجَانِبَ الْمَعْنَوِيَّ فِي نَفْسِه. وَطَرِيقُ التَّقَدُّمِ الرُّوحِيِّ والتَّطَوُّرِ الْمَعْنَوِيِّ هُوَ تَقْوِيَةُ عَلَاقَتِهِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَلَا بُدَّ لِذَلِكَ مِنَ التَّعَرُّفِ عَلَى الذَّاتِ الْإِلَهِيَّةِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَنْ طَرِيقِ كِتَابِ اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ ؐ.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
مَنْ عَرَفَ رَبَّهُ حَقَّ الْمَعْرِفَةِ؛ وَثِقَ فِيهِ وَاعْتَمَدَ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ لِلَّهِ تَعَالَى. وَثِقَةُ الْعَبْدِ فِي اللَّهِ تَعَالَى، وَإِيمَانُهُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَفِيلٌ بِرِزْقِهِ، يُسَمَّى بِالتَّوَكُّلِ عَلَى اللَّه. قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِّنْ بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُون﴾.[1] وَقَالَ: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذي لَا يَمُوتُ وَسَبِّـحْ بِحَمْدِهؕ وَكَفٰى بِه بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً﴾.[2]
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
لَا بُدَّ أَنْ نُدْرِكَ قُدْرَةَ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتَهُ لِنَسْتَمِدَّ مِنْ ذَلِكَ قُوَّةَ الصُّمُودِ أَمَامَ صُعُوبَاتِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا. لَا بُدَّ أَنْ نَعْلَمَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير، وَأَنَّهُ قَرِيبٌ يَسْتَجِيبُ الدَّعَوَات، وَأَنَّهُ تَعَالَى يَحْفَظُ وَيَحْمِي مَنْ يَلْجَأُ إِلَيْه. وَلَا يُمْكِنُ لِلْمُسْلِمِ الْعَارِفِ بِرَبِّهِ، اَلْمُتَوَكِّلِ عَلَيْهِ، أَنْ يَحْمِلَ هَمَّ الرِّزْق اَلَّذِي هُوَ وَسِيلَةٌ لِحَيَاتِه. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ؐ: «لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُوا خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا».[3] فَقَوْمٌ آمَنُوا بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ وَأَنَّهُ الْكَفِيلُ بِرِزْقِ عِبَادِهِ، يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ هَمُّ الرِّزْقِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَحْدُثَ بَيْنَهُمُ الْهَرْجُ وَالْفَوْضَى مِنْ أَجْلِ الرِّزْق. بَلْ إِنَّهُمْ يَسْعَوْنَ فِي أَعْمَالِهِمْ وَاثِقِينَ فِي رَبِّهِمْ وَيَتَوَكَّلُونَ عَلَى مَوْلَاهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
إِنَّ ثِقَةَ الْمُؤْمِنِ بِرَبِّهِ لَيْسَ لَهُ حُدُود. وَلَكِنَّ هَذِهِ الثِّقَةَ تَكُونُ مَبْنِيَّةً عَلَى مَعْرِفَةِ أَمْرٍ آخَرَ مُهِمّ. أَلَا وَهُوَ حَقِيقَةُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبَطَ فِي هَذَا الْعَالَمِ بَيْنَ الْأَشْيَاءِ بِرَابِطَةِ السَّبَبِيَّةِ، فَجَعَلَ بَعْضَ الْأُمُورِ أَسْبَابًا لِبَعْض. فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَخْلُقُ الْمُسَبَّبَاتِ حِينَ تُوجَدُ أَسْبَابُهَا. نَعَمْ، يَجِبُ أَلَّا نُؤَلِّهَ الْأَسْبَابَ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّه، وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ التَّوَكُّلُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ الْغَفْلَةِ عَنْ هَذِهِ الْحَقِيقَة. رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ ؐ وَهُوَ يَسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ بِنَاقَتِهِ: يَا رَسُولَ اللَّه! أَعْقِلُهَا وَأَتَوَكَّلُ أَوْ أُطْلِقُهَا وَأَتَوَكَّل؟ قَالَ: «اِعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ».[4] فَأَمَرَهُ ؐ بِالْأَخْذِ بِالْأَسْبَابِ ثُمَّ التَّوَكُّلِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى. فَلَا بُدَّ مِنَ الثِّقَةِ فِي اللَّهِ وَالتَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَمِنَ السَّعْيِ وَالْعَمَلِ مَعهُ أَيْضًا.
إِخْوَتِيَ الْمُؤْمِنُون، أُحِبُّ أَنْ أُذَكِّرَكُمْ فِي نِهَايَةِ خُطْبَتِي، بِأَنَّ مَنْ قَالَ إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ: “بِسْمِ اللَّه، تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّه، لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّه”، يُقَالُ لَهُ: كُفِيتَ وَوُقِيت، وتَنَحَّى عَنْهُ الشَّيْطَان.
أَسْأَلُ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَنَا وَيَجْعَلَ أَوْلَادَنَا مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الصَّالِحِينَ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَيْه. إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْه. آمِين.
[1] سورة آل عمران: 160
[2] سورة الفرقان: 58
[3] سنن الترمذي، كتاب الزهد، 33؛ ابن ماجه، كتاب الزهد، 14
[4] سنن الترمذي، كتاب صفة القيامة، 60