خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة: الْعُنْصُرِيَّةُ
13.02.2025
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ وَهُوَ أَشْرَفُ الْكَائِنَاتِ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، وَمَيَّزَهُ بِالْكَرَامَةِ وَالِاحْتِرَامِ. لَا يَجِبُ عَلَى أَيِّ أَحَدٍ أَنْ يُقَلِّلَ أَوْ يُصَغِّرَ مِنْ شَأْنِ شَخْصٍ آخَرَ بِسَبَبِ عِرْقِهِ أَوْ أَيِّ سَبَبٍ آخَرَ. نَحْنُ لَمْ نَخْتَرْ عِرْقَنَا وَلَا لَوْنَنَا عِنْدَمَا خَلَقَنَا اللَّهُ، وَلِذَلِكَ فَلَا يَحِقُّ لَنَا أَنْ نُهِينَ شَخْصًا بِذَلِكَ، لِأَنَّهُ يُعَدُّ مِنَ الْإِسَاءَةِ لِلَّهِ تَعَالَى. لَقَدْ خَلَقَنَا اللَّهُ مُخْتَلِفِينَ، وَأَصْحَابَ أَعْرَاقٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى قُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَعَظَمَتِهِ. إِنَّ اللَّهَ لَا يُقَدِّرُنَا عَلَى حَسَبِ لَوْنِنَا وَعِرْقِنَا، إنَّمَا يُقَدِّرُنَا عَلَى حَسَبِ إِيْمَانِنَا بِه.
فِي إحْدَى الْمَرَّاتِ، كَانَ الصَّحَابِيُّ أَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي خِلَافٍ مَعَ بِلَالٍ الْحَبَشِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَفِي لَحْظَةِ غَضَبٍ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ لِبِلاَلٍ: “يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ”، بِسَبَبِ لَوْنِ بَشْرَتِهِ. وَهُوَ تَعْبِيرٌ يَحْمِلُ إسَاءَةً عُنْصُرِيَّةً، وَبِذَلِك الْقَوْلِ انْكَسَرَ قَلْبُ بِلَالٍ الْحَبَشِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. بِلَالٌ الْحَبَشِيُّ، الَّذِي كَانَ مِنْ أَوَائِلِ مَنْ أَسْلَمَ، وَعَانَى كَثِيرًا مِنَ الْعَذَابِ عَلَى يَدِ الْمُشْرِكِينَ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَتَحَمَّلَ هَذِهِ الْإِسَاءَةَ، وَحَكَى لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا حَدَثَ .كَانَتْ الْعُنْصُرِيَّةُ أَمْرًا طَبِيعِيًّا فِي زَمَنِ الْجَاهِلِيَّةِ، إلَّا أَنَّ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْضَحَ أَنَّ التَّفَاضُلَ بَيْنَ النَّاسِ لَيْسَ بِاللَّوْنِ أَوْ الْعِرْقِ، بَلْ بِالتَّقْوَى وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ . فَلَمَّا سَمِعَ النَّبِيُّ مُحَمَّدٌ ﷺ بِذَلِكَ، غَضِبَ غَضَبًا شَدِيدًا، وَقَالَ لِأَبِي ذَرٍّ: «يا أبَا ذَرٍّ أعَيَّرْتَهُ بأُمِّهِ؟ إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ!» بِمُجَرَّدِ أَنْ سَمِعَ هَذَا التَّوْبِيخَ مِنَ النَّبِيِّ ﷺ، شَعَرَ أَبُو ذَرٍّ بِنَدَمٍ شَدِيدٍ. أَدْرَكَ أَنَّهُ أَخْطَأَ خَطَأً جَسِيمًا، فَذَهَب مُبَاشَرَةً إِلَى بِلَالٍ الْحَبَشِيِّ وَاعْتَذَرَ مِنْه وَابْتَعَدَ بَعْدَ ذَلِكَ عَنْ الْكِبْرِيَاءِ وَالْعُنْصُرِيَّةِ.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
الْعُنْصُرِيَّةُ مَرَضٌ يُصِيبُ الْمُجْتَمَعَ الْجَاهِلَ. وَقَدْ أَشَارَ نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أَنَّ الْعُنْصُرِيَّةَ تُدَمِّرُ رُوحَ السَّلَامِ وَالْأُخُوَّةِ بَيْنَ النَّاسِ مُنْذُ قُرُونٍ، وَقَالَ إنَّهُ مَحَى كُلَّ الْعَادَاتِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي وَرِثَتْ مِنْ عَصْرِ الْجَاهِلِيَّةِ وَخَتَمَ كَلَامَهُ بِقَوْلِهِ: «ألا إنَّ كلَّ شيء من أمرِ الجاهليةِ تحتَ قدمي موضوعٌ».
الْعُنْصُرِيَّةُ هِي الِاعْتِقَادُ بِأَنَّ مَجْمُوعَةً مُعَيَّنَةً مِنَ النَّاسِ، بِنَاءً عَلَى عِرْقِهِمْ، أَوْ لَوْنِهِمْ، أَوْ أَصْلِهِمْ، أَوْ دِينِهِمْ، أَوْ لُغَتِهِمْ، أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهَا، بِمَعْنًى اخَرَ الْعُنْصُرِيَّةُ هِي النَّظَرُ لِلْإِنْسَان عَلَى حَسَبِ عِرْقِهِ وَلَوْنِهِ وَنَسَبِهِ دُونَ النَّظَرِ لِخَلْقِهِ وَمُمَيِّزَاتِهِ. بِسَبَبِ الْعُنْصُرِيَّةِ حُرِمَ الْعَدِيدُ مِنَ النِّسَاءِ وَالْأَطْفَالِ مِنْ بُيُوتِهِمْ وَبَلَدِهِمْ وَحُقُوقِهِمْ.
أيُّها الإخْوَةُ الأفاضِل،
الْعُنْصُرِيّ مِثْلُ شَخْصٍ مُصَابٌ بِعَمَى الْأَلْوَانِ، يَرَى الْعَالَمَ فَقَطْ بِالْأَبْيَضِ وَالْأَسْوَدِ، لَا يَرَى التَّنَوُّعَ وَالْجَمَالَ فِي الِاخْتِلَافَاتِ، بَلْ يُقَسِّمُ النَّاسَ بِطَرِيقَةٍ سَطْحِيَّةٍ عَلَى حَسَبِ عِرْقِهِمْ، وَنَسَبِهِمْ، وَلَوْنِهِم، وَهُوَ شَخْصٌ نَشَأَ عَلَى الْكُرْهِ وَعَدَمِ التَّسَامُحِ، وَيَكُونُ عَدِيمَ الرَّحْمَةِ، وَظَالِمًا، وَأَنَانِيًّا. إنَّ مِنْ أَكْبَرِ الْمَوَانِعِ الْانَ فِي الْعَلَاقَاتِ الأَخَوِيَّةِ وَالْإِنْسَانِيَّةِ هِيَ الْعُنْصُرِيَّةُ وَالتَّفْرِقَةُ. وَتَظْهَرُ هَذِهِ الْعُنْصُرِيَّةُ بِشَكْلٍ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَرَى عِرْقَهُ، وَنَسَبَه، مُمَيَّزًا عَنْ غَيْرِهِ. وَلِلْأَسَفِ هذَا الْفِكْرُ يَجْلِبُ الضَّغِينَةَ وَالْكَرَاهِيَةَ بَدَلًا مِنْ السَّلَامِ الِاجْتِمَاعِيّ، وَيَجْلِبُ الظُّلْمَ وَالْقَسْوَةَ بَدَلًا مِنْ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ، وَيَجْلِبُ أَيْضًا التَّفْرِقَةَ بَدَلًا مِنْ التَّضَامُنِ. يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي الْآيَةِ الَّتِي قَرَأْنَاهَا فِي بِدَايَةِ الْخُطْبَةِ: ﴿ يَٓا اَيُّهَا النَّاسُ اِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَاُنْثٰى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَـبَٓائِلَ لِتَعَارَفُواؕ اِنَّ اَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ اَتْقٰيكُمْؕ اِنَّ اللّٰهَ عَلٖيمٌ خَبٖيرٌ﴾
إنَّ الِانْتِمَاءَ إلَى عِرْقٍ أَوْ نَسَبٍ مُخْتَلِفٍ، أَوْ التَّمَتُّعَ بِمَكَانَةٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا لِلتَّفَاضُلِ أَوْ التَّمَيُّزِ بَيْنَ النَّاسِ، فَإِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ. إِنَّ شَرَفَ الْإِنْسَانِ وَقِيمَتَهُ لَا يَعْتَمِدُ عَلَى انْتِمَائِهِ بِعِرْقٍ وَنَسَبٍ مُعَيَّنٍ، بَلْ يَعْتَمِدُ عَلَى الْقِيَمِ الَّتِي يَكْتَسِبُهَا بِإِرَادَتِهِ وَجُهْدِهِ. وَلْنَخْتِمْ خُطْبَتَنَا بِالْحَدِيثِ الشَّرِيفِ الآخَرِ عَنْ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ، يَدْعُو عَصَبِيَّةً، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ» نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُوَحِّدَ قُلُوبَنَا وَيَحْفَظَهَا مِنْ التَّفْرِقَةِ الْعُنْصُرِيَّةِ. أَمِين.