خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة: الوَفَاءُ بِالعَهْدِ
07.11.2024أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ فِي دِينِنَا الْحَنِيفِ هُوَ الْوَفَاءُ وَالْوَلَاءُ. الْوَفَاءُ مَعْنَاه الْوَفَاءُ بِالْوَعْدِ، وَالْحِفَاظُ عَلَى الْعَلَاقَاتِ. وَبِمَعْنًى آخَرَ عَدَمُ نِسْيَانِ الْمَعْرُوفِ، وَإِظْهَارُ الشُّكْرِ وَالْوَفَاءِ لِهَذَا الْمَعْرُوف. لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ وَفِيًّا وَمُخْلِصًا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ دَاخِلُكَ وَخَارِجُكَ يَتَحَدَّثُ بِالصِّدْقِ. وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ الْوَفِيَّ لَا يُعْطِي وَعْدًا لَا يَسْتَطِيعُ الْوَفَاءَ بِهِ، وَإِذَا وَعَدَ يَفِي بِوَعْدِهِ، وَأَيْضًا لَا يَنْسَى وَيُنْكِرُ الْمَعْرُوفَ الَّذِي قُدِّمَ لَهُ، وَلَا يُقَابِلُ الْإِحْسَانَ بِالسَّيِّئَةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ أَخْبَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ خِصَالِ الْمُنَافِقِينَ وَقَالَ: «آيةُ المُنافِقِ ثلاثٌ: إذا حدَّثَ كذَبَ، وإذا وعَدَ أخلَفَ، وإذا ائْتُمِنَ خَان» إذَا انْتَبَهْنَا إلَى هَذِهِ الْخِصَالِ الثَّلَاثِ وَجَدْنَا أَنَّ أَسَاسَهَا عَدَمُ الْوَفَاءِ. الْوَفَاءُ وَالْإِخْلَاصُ هُوَ أَسَاسُ تَكْوِينِ العَلَاقَاتِ الإِنْسَانِيَّةِ. حَتَّى تَسِيرَ الْعَلَاقَاتُ فِي هَذِهِ الحَيَاةِ بِشَكْلٍ سَلِيمٍ، وَلِكَيْ تَزِيدَ الصَّدَاقَةُ وَالثِّقَةُ فِي الْعَلَاقَاتِ بَيْنَ النَّاسِ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ يَكُونَ كُلًّا مِنَ الزَّوْجَيْنِ وَفِيَيْنِ وَمُخْلِصَيْنِ لِبَعْضِهِمَا الْبَعْض، وَالْأَطْفَالِ تُجَاهَ وَالِدَيْهِمْ، وَالْأَقَارِبِ مَعَ بَعْضِهِمْ الْبَعْض، وَالْمُوَظَّفِينَ مَعَ أَصْحَابِ الْعَمَلِ. وَيَقُولُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:«اضْمَنُوا لِي سِتًّا مِنْ أَنْفُسِكُمْ، أَضْمَنْ لَكُمْ الْجَنَّةَ، اصْدُقُوا إِذَا حَدَّثْتُمْ، وَأَوْفُوا إِذَا وَعَدْتُمْ، وَأَدُّوا إِذَا اؤْتُمِنْتُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ، وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَكُفُّوا أَيْدِيَكُمْ.» قَدَّمَ لَنَا سِتَّ تَوْصِيَاتٍ مُهِمَّةٍ لِأَجْلِ أَنْ نَعِيشَ بِشَكْلٍ سَلِيمٍ.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
عِنْدَمَا نَتَحَدَّثُ عَنْ الْوَفَاءِ لَا يَأْتِي إلَى الذِّهْنِ فَقَطْ الْوَفَاءُ الَّذِي بَيْنَ النَّاسِ. بَلْ أَهَمُّ شَيْءٍ أَنْ يَكُونَ الْمُؤْمِنُ وَفِيًّا لِرَبِّهِ الَّذِي خَلَقَهُ مِنَ الْعَدَمِ، وَأَنْعَمَ عَلَيْهِ بِنِعَمٍ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى. قَبْلَ أَنْ يَبْعَثَنَا اللَّهُ إلَى الدُّنْيَا لِلِامْتِحَانِ، وَعِنْدَمَا َسَأَلَنَا (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) قُلْنَا (بَلَى أَنْتَ رَبُّنَا). وَبِهَذَا نَكُونُ عَلَى عَهْدِنَا تُجَاهَ خَالِقِنَا. وَبَعْدَمَا بَعَثَنَا إلَى الدُّنْيَا وَفَى الْبَعْضُ بِالْعَهْدِ الَّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، بَيْنَمَا الْآخَرُونَ نَقَضُوا الْعَهْدَ وَاتَّبَعُوا الشَّيْطَانَ.
يَعْتَمِدُ وَفَاءُ الْإِنْسَانِ قَبْلَ أَيِّ شَيْءٍ عَلَى إيمَانِهِ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ لِأَنَّ الإِيْمَانَ بِالْيَوْمِ الَّذِي سَيُحَاسَبُ فِيهِ الْإِنْسَانُ يُشَجِّعُهُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. ويَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ:﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ أَوۡفُواْ بِٱلۡعُقُودِۚ﴾ يُذَكِّرُنَا بِأَهَمِّيَّةِ الْوَفَاءِ وَأَنَّهُ مِنَ الإِيمَانِ .وَيُخْبِرُنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ حَالِ النَّاقِضِينَ لِعَهْدِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ:
«إذا جَمَعَ اللهُ الأولِينَ والآخِرِينَ يَوْمَ القِيَامَةِ رُفِعَ لِكُلِّ غادرٍ لِوَاءٌ يومَ القيامةِ فَقِيلَ:هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ»
أيُّها الإخْوَةُ الأفاضِل،
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُدْوَةً فِي الْوَفَاءِ وَفِي سَائِرِ الْأَخْلَاقِ الْحَمِيدَةِ. لَمْ يُخْلِفْ أَيَّ وَعْدٍ، وَلَمْ يَنْسَ الْمَعْرُوفَ الَّذِي قُدِّمَ إلَيْهِ. تَحْكِي السَّيِّدَةُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ وَفَائِهِ بِقَوْلِهَا: «مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا؛ وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ: إنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ.» وَهَذَا يُشِيرُ إلَى وَفَائِهِ لِزَوْجَتِه.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ الْمُتَّقِينَ الْمُخْلِصِينَ الأَوْفِيَاءِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.