خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة: العيش في دائرة الحلال
10.04.2025
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
قَدْ بَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى لَنَا الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ عَنْ طَرِيقِ كُتُبِهِ الَّذِي أَنْزَلَهَا، وَرُسُلِهِ الَّذِينَ أَرْسَلَهُمْ لِهِدَايَةِ الْبَشَرِ، وَأَمَرَ عِبَادَهُ اَلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَسِيرُوا فِي حَيَاتِهِمْ فِي إِطَارِ اَلْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي. وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى نَهْيًا صَرِيحًا عَنْ أَنْ يُحِلَّ الْإِنْسَانُ مَا حَرَّمَ اللَّهُ، أَوْ يُحَرِّمَ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ، تَبَعًا لِهَوَاهُ وَرَغَبَاتِهِ. يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْآيَةِ الَّتِي تُلِيَتْ فِي أَوَّلِ خُطْبَتِنَا: ﴿وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ اَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هٰذَا حَلَالٌ وَهٰذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَۜ اِنَّ الَّذ۪ينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَۜ﴾ مَنْ يَعِيشْ وَفْقًآ لِمَا أَحَلَّهُ اللَّهُ يَفُزْ بِالْجَنَّةِ، وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ جَزَاءُهُ النَّارُ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ. ” وَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ ﷺ خُطُورَةِ الْحَرَامِ، فَقَالَ: «كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ»
وَقَالَ إِنَّ التَّصَدُّقَ مِنْ مَالٍ حَرَامٍ لَا يُثَابُ عَلَيْهِ، وَكُلُّ الْعِبَادَاتِ الَّتِي تُؤَدَّى مِنْ مَالٍ حَرَامٍ لَا تُقْبَلُ عِنْدَ اللَّهِ، وَضَرَبَ لَنَا ﷺ مِثَالًا عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: «ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَر أشْعَثَ أغْبر يمُدُّ يدَيْهِ إلَى السَّمَاءِ: يَا ربِّ يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرَامٌ، ومَلْبسُهُ حرامٌ، وغُذِيَ بِالْحَرامِ، فَأَنَّى يُسْتَجابُ لِذَلِكَ؟»
عِنْدَما تُلِيَتْ هذهِ الآيةُ عندَ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا}، فقامَ سَعْدُ بنُ أبي وقَّاصٍ -رَضِيَ اللهُ عنه- فقال: يا رَسُولَ الله، ادعُ اللهَ أنْ يجعلَني مُستجابَ الدَّعْوَةِ، فَقَال: «يَا سَعْدُ أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، …»
الْحَلَالُ هُوَ مَا يُوَافِقُ فِطْرَتَنَا، أَمَّا الْحَرَامُ فَهُوَ مَا يُهِينُ الْإِنْسَانَ، وَيُفْسِدُ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ. فَيَنْبَغِي عَلَيْنَا أَنْ نَحْرِصَ عَلَى الْحَلَالِ فِي كُلِّ شَيْءٍ فِي حَيَاتِنَا مِنْ مَأْكَلٍ، وَمَشْرَبٍ، وَمَلْبَسٍ، وَمَسْكَنٍ، وَمَكْسَبٍ، وَغَيْرِهَا. وَلْنُرَاعِ رِضَى اللَّهِ فِي أَقْوَالِنَا وَأَفْعَالِنَا وَفِي مَجَالِسِنَا. وَلنَحْرِصْ عَلَى أَنْ تَكُونَ كُلُّ عَلَاقَتِنَا مَعَ النَّاسِ ضِمْنَ دَائِرَةِ الْحَلَالِ. إنَّ حِرْصَنَا عَلَى ذَلِكَ يَجْعَلُنَا نَنَالُ رِضَا اللَّهِ إنْ شَاءَ اللهُ. وَلْنَعْلَمْ أَنَّ الْحَرَامَ أَعْظَمُ مَا يَحُولُ بَيْنَ الْعَبْدِ وَرَبِّهِ.
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
لِلْأَسَفِ الشَّدِيدِ نَعِيشُ فِي زَمَنٍ ضَعُفَتْ فِيهِ الْحَسَّاسِيَّةُ تُجَاهَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ يَوْمًا بَعْدَ يَوْمٍ، وَأَصْبَحَتْ الْمُحَرَّمَاتُ تُمَارَسُ عَلَنًا وَكَأَنَّهَا أَمْرٌ طَبِيعِيٌّ وَمَقْبُولٌ، وَكَذَلِكَ فَإِنَّ الْخُصُوصِيَّةَ قَدْ تَعَرَّضَتْ لِلِانْتِهَاكِ. وَفِي ظِلِّ هَذَا الْوَاقِعِ الْمُؤْلِمِ وَاجِبُنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ أَنْ نَلْتَزِمَ الْتِزَامًا دَقِيقًا بِمَا شَرَعَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ أَحْكَامِ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَأَنْ نُرَبِّيَ أَوْلَادَنَا عَلَى ذَلِكَ، وَنُرَسِّخَ فِيهِمْ نَهْجَ دِينِنَا وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَفِقْدَانُ هَذِهِ اَلْمَفَاهِيمِ مِنْ أَعْظَمِ الْمَصَائِبِ الَّتِي قَدْ تُصِيبُ الْفَرْدَ وَالْمُجْتَمَعَ.
يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ آمَنَ بِالْقُرْآنِ وَسَارَ عَلَى دَرْبِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَكُونَ عَلَى وَعْيٍ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ. فَالْمُؤْمِنُ هُوَ مَنْ يُحِبُّ رَبَّهُ وَيَعْرِفُ حُدُودَ دِينِهِ، وَلَا يَتَعَدَّاهَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ اَلْإِيمَانِ. إِنَّ الْحَلَالَ وَالْحَرَامَ يُشَكِّلَانِ جَوْهَرَ هَذَا الدِّينِ، وَهُمَا حُدُودٌ حَدَّهَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْ أَجْلِ سَعَادَةِ عِبَادِهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَعِنْدَمَا نَلْتَزِمُ بِهَذِهِ الْحُدُودِ، فَإِنَّنَا لَا نَكُونُ فَقَطْ مُطِيعِينَ لِأَوَامِرِ اللَّهِ، بَلْ نَكُونُ أَيْضًا حَافِظِينَ لِلضَّرُورَاتِ الْخَمْسِ الَّتِي جَاءَ الْإِسْلَامُ لِصِيَانَتِهَا، وَهِيَ: اَلدِّينُ، وَالنَّفْسُ، وَالْعَقْلُ، وَالنَّسْلُ، وَالْمَالُ.
فِي الْمُجْتَمَعِ الَّذِي يُرَاعَى حُدُودُ اللَّهِ، لَا يَخْشَى النَّاسُ عَلَى أَرْوَاحِهِمْ وَلَا أَمْوَالِهِمْ، وَتُحْفَظُ فِيهِ الْأَعْرَاضُ، وَتُرَبَّى فِيهِ الْأَجْيَالُ عَلَى الطُّهْرِ وَالِاسْتِقَامَةِ. وَفِي عَالَمٍ يُرَاعَى فِيهِ مِيزَانُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، يَزُولُ بِإِذْنِ اللَّهِ كَثِيرٌ مِنْ الْمُشْكِلَاتِ الَّتِي تُزَعْزِعُ اسْتِقْرَارَ الْمُجْتَمَعَاتِ، وَيُصْبِحُ الْوُصُولُ إِلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّعَادَةِ الْحَقِيقِيَّةِ أَمْرًا مُمْكِنًا وَمَيْسُورًا.
وَنَخْتِمُ خُطْبَتَنَا بِحَدِيثٍ شَرِيفٍ جَاءَ فِي مَطْلَعِهَا، عَنْ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَالَ: «لَيَأْتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يُبَالِى الْمَرْءُ بِمَا أَخَذَ الْمَالَ، أَمِنْ حَلاَلٍ أَمْ مِنْ حَرَامٍ»