خطبة
خُطْبَةُ الْجُمُعَة: أَخْلَاقِيَّاتُ التَّاجِرِ الْمُسْلِم
09.06.2023أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
إِنَّ الِاشْتِغَالَ بِالْمِهَنِ وَالتِّجَارَةِ أَمْرٌ قَدِيمٌ قِدَمَ الْبَشَرِيَّة. فَلَا يَقْدِرُ إِنْسَانٌ عَلَى تَلْبِيَةِ جَمِيعِ حَاجَاتِهِ بِنَفْسِه. بَلْ لَا بُدَّ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْتَعِينَ بِأَنْوَاعِ الْبُيُوعِ وَالتِّجَارَاتِ لِيَتَوَصَّلَ بِهَا إِلَى مُبْتَغَاه. فَحَتَّى سَدُّ الْحَاجَاتِ الْأَوَّلِيَّةِ مِنَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَاللُّبْسِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتِمَّ إِلَّا بِجُهُودٍ يَبْذُلُهَا النَّاسُ فِي إِنْتَاجِ هَذِهِ الْأَغْذِيَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأَلْبِسَة. وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْمُجْتَمَعِ أَنْ يُسَاهِمَ -فِي حُدُودِ قُدُرَاتِهِ وَإِمْكَانَاتِهِ- فِي عَمَلِيَّةِ الْإِنْتَاجِ وَفِي تَقْدِيمِ نَفْعٍ لِلْمُجْتَمَعِ الَّذِي يَعِيشُ فِيه. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِالْكَدْحِ وَالْعَمَلِ لِاكْتِسَابِ الرِّزْقِ مِنْ أَجْلِ سَدِّ حَاجَاتِ أَنْفُسِهِمْ وَمَنْ يَعُولُون. وَأَمَرَهُمْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ يَلْتَزِمُوا بِشَرْعِهِ فِيمَا يُمَارِسُونَهُ وَلَا يَتَجَاوَزُوا حُدُودَه. فَإِنْ هُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ كَمَا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى، عَدَّهَا لَهُمْ طَاعَةً وَعِبَادَةً يُؤْجَرُونَ عَلَيْهَا. قَالَ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون﴾.[1] وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَال: «طَلَبُ كَسْبِ الْحَلَالِ فَرِيضَةٌ بَعْدَ الْفَرِيضَةِ».[2]
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
مَتَى تَجَاوَزَ النَّاسُ حُدُودَ اللَّهِ تَعَالَى فِي بَيْعِهِمْ وَشِرَاءِهِمْ وَفِي مُخْتَلَفِ تِجَارَاتِهِمْ، وَلَمْ يَلْتَزِمُوا بِالْحَلَالِ فِي الْمَكْسَبِ وَالْمَصْرَفِ، لَمْ يَقْتَصِرْ ضَرَرُ ذَلِكَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَط، بَلْ تَمْتَدُّ آثَارُهُ إِلَى الْمُجْتَمَعِ بِأَسْرِه، فَيَخْتَلُّ بِسَبَبِ ذَلِكَ نِظَامُ الْمُجْتَمَعِ وَسَلَامُه. وَقَدْ حَذَّرَ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُجَاوِزُونَ حُدُودَهُ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَقَال: ﴿وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ . الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ . أَلَا يَظُنُّ أُولَٰئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ﴾.[3]
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
إِنَّ الْتِزَامَ شَرْعِ اللَّهِ تَعَالَى فِي الْمُعَامَلَاتِ الْمَالِيَّةِ سَبَبٌ مِنْ أَسْبَابِ الْفَوْزِ بِمَرْضَاةِ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَة. وَالْمُسْلِمُ الْوَاعِي لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ وَالْعَامِلُ عَلَى وَفْقِهَا هُوَ أَفْضَلُ نَمُوذَجٍ حَيٍّ يُمَثِّلُ أَخْلَاقَ الْإِسْلَام. قَالَ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ﴾.[4]
وَمِنَ الْمَبَادِئ الْأَخْلاَقِيَّةِ الَّتِي أَرْسَاهَا الْإِسْلَامُ وَأَمَرَ بِهَا في الْمُعَامَلَات: اَلْإِخْلَاصُ، وَالصِّدْقُ، وَالْعَدَالَةُ، وَالْكَرَمُ، وَالْقَنَاعَةُ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَالسَّمَاحَةُ، وَالتَّرَاضِي، وَالِاسْتِقَامَةُ فِي الْكَيْلِ وَالْوَزْن. وَكَمَا أَمَرَ الْإِسْلَامُ بِهَذِهِ الْقِيَمِ، فَإِنَّهُ نَبَذَ مِنْ نَاحِيَةٍ أُخْرَى اَلْمُعَامَلَاتِ غَيْرِ الْأَخْلاَقِيَّةِ وَغَيْرِ الْمَشْرُوعَةِ وَنَهَى عَنْهَا، مِثْلَ: الْكَذِبِ، وَالْحِيلَةِ، وَالْغِشِّ، وَالْإِكْرَاهِ، وَالِاحْتِكَارِ، وَالرَّشْوَةِ، وَالرِّبَا. وَانْظُرُوا إِلَى جَزَاءِ الْمُسْلِمِ الَّذِي يَلْتَزِمُ بِأَوَامِرِ اللَّهِ هَذِهِ فِي مُعَامَلَاتِه، قَالَ ﷺ: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء».[5]
فَأَسْأَلُ الْمَوْلَى عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عِبَادِهِ الصَّادِقِين، وَأَنْ يُعِينَنَا عَلَى طَاعَتِه، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْه. آمِين!
[1] سورة البقرة: 172
[2] المعجم الكبير للطبراني، 10/74، الحديث رقم: 9851 ؛ السنن الكبرى للبيهقي، 6/128
[3] سورة المطففين: 1-4
[4] سورة فاطر: 29
[5] سنن الترمذي، كتاب البيوع، 4/471، الحديث رقم: 1130