خطبة
خطبة الجمعة ٢٤\٩\٢٠٢١ – الكون أمانة الله فِي رقابنا
24.09.2021أَيُّهَا الإِخْوَةُ الْكِرَامَ،
لَقَدْ نَادَى نَبِيُّ اللَّهِ صَالِحٌ (عَلَيْهِ السَّلَامُ) قَوْمَهُ فَـقَالَ ﴿يَا قَوْم ِاعْبُدُوا اللّٰهَ مَا لَكُمْ مِنْ اِلٰهٍ غَيْرُهُ ط هُوَ اَنْشَاَكُمْ مِنَ الْاَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فٖيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُٓوا اِلَيْهِ﴾.[1] إِنَّ لَنَا فِي هَذِهِ الدَّعْوَةِ النَّبَوِيَّةِ لَعِبَرًا كَثِيرَة. فَإِنَّ صَالِحًا (عَلَيْهِ السَّلَامُ) بَعْدَ أَنْ دَعَا قَوْمَهُ لِعِبَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، ذَكَّرَهُمْ عَقِبَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ مَخْلُوقُونَ مِنَ التُّرَاب، وَمُكَّلَفُونَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ تَعَالَى بِإِعْمَارِ هَذِهِ الْأَرْضِ وَإِحْيَائِهَا وَإِصْلَاحِهَا. وَقَدْ نَبَّهَنَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ عَلَى أَنْ نُحَافِظَ عَلَيْهَا بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَلَا نُفْسِدَ فِيهَا، فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا﴾.[2]
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْأَعِزَّاء!
بِإِمْكَانِنَا أَنْ نُدْرِكَ عِظَمَ مَعْنَى الْفَسَادِ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ الشَّرِيف: رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ مرَّ عليْهِ جِنَازَةٌ فَقَالَ: «مُسْتَرِيْحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ»، فَقَالُوا: مَا الْمُسْتَرِيحُ وَمَا الْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟ قَالَ: «الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ. وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلاَدُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ».[3] فَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ مُكَلَّفٌ بِالْحِفَاظِ عَلَى الْعِبَادِ وَعَلَى الْبِلَادِ وَعَلَى النَّبَاتِ وَعَلَى الدَّوَابِّ، وَأَنَّ الْإِضْرَارَ بِهَا وَإِهْمَالَ هَذِهِ الْوَظِيفَةِ إِفْسَادٌ لَهَا.
إِخْوَتِيَ الْأَفَاضِل!
طَبْعًا، لَا يَتَعَمَّدُ أَحَدُنَا اَلْإِضْرَارَ بِالْبِيئَة. لٰكِنَّ التَّطَوُّرَاتِ النَّاتِجَةِ عَنْ حَرَكَةِ التَّصْنِيع، تَجْعَلُنَا فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ شُرَكَاءَ فِي الظُّلْمِ وَالْإِضْرَار. اَلْإِنْسَانِيَّةُ الْيَوْم، بِهَدَفِ اسْتِزَادَةِ الْأَرْبَاحِ التِّجَارِيَّة، قَدْ تَبَنَّتْ نَمْطًا مِنَ التَّصْنِيعِ يُؤَدِّي إِلَى كَثِيرٍ مِنَ الْمَشَاكِلِ الْبِيئِيَّة. حِرْصُنَا عَلَى الرّبْح، وَالَّذِي لَا يَعْرِفُ فُتُورًا وَلَا وُقُوفًا عِنْدَ حَدّ، يُسَبِّبُ تَخْرِيبَ الطَّبِيعَة. اَلدُّوَلُ الْيَوْمَ لَا تَرَى بَأْسًا فِي أَنْ تُقِيمَ تَنْمِيَتَهَا الْاِقْتِصَادِيَّةَ عَلَى حِسَابِ آفَاتٍ طَبِيعِيَّةٍ مِثْلَ تَلَوُّثِ الْبِيئَةِ وَالِاحْتِرَارِ الْعَالَمِيّ. وَلَا تَقْتَصِرُ الْآفَاتُ النَّاتِجَةُ عَنْ حِرْصِنَا فِي هَذَا الْعَصْر، عَلَى الْمَشَاكِلِ الْبِيئِيَّةِ فَحَسْب.
بَلْ تَتَعَدَّاهَا إِلَى الْكَائِنَاتِ الْحَيَّةِ الْأُخْرَى اَلَّتِي تُشَارِكُنَا فِي الْحَيَاةِ عَلَى وَجْهِ هَذِهِ الْأَرْض. يَقُولُ النَّبِيُّ ﷺ: «اتَّقُوا اللهَ فِي هَذِهِ الْبَهَائِمِ الْمُعْجَمَةِ، فَارْكَبُوهَا صَالِحَةً، وَكُلُوهَا صَالِحَةً».[4] فَنَحْنُ إِذَا اعْتَبَرْنَا هَذِهِ الْحَيَوَانَاتِ مُجَرَّدَ أَمْتِعَةٍ تُكَوِّنُ الُّلحُومَ فِي طَعَامِنَا، نُصْبِحُ بِطَرِيقٍ غَيْرِ مُبَاشِرٍ مُؤَيِّدِينَ لِلنِّظَامِ الرَّاهِن. وَمِمَّا يَنْبَغِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْإِطَار، هُوَ اجْتِنَابُ الشَّرِكَاتِ الَّتِي تُخِلُّ حُقُوقَ الْإِنْسَانِ إِذْ تَسْتَغِلُّ الْعَامِلِينَ الْوَافِدِينَ مِنَ الدُّوَلِ النَّامِيَةِ بَحْثًا عَنْ لُقْمَةِ الْعَيْش. فَلَا يَلِيقُ بِالْمُسْلِمِ أَلْــبَـتَّــةَ أَنْ يُفَكِّرَ: “إِنَّمَا يُهِمُّنِي أَنْ يَكُونَ رَخِيصًا”. يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «اَلدَّالُّ عَلَى الْخَيْرِ كَفَاعِلِه».[5] وَمِنْ عَمَلِ الْخَيْرِ أَنْ نُنَبِّهَ مَنْ حَوْلَنَا إِلَى مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُور. فَفِي أَلْمَانِيَا عَلَى سَبِيلِ الْمِثَال، تُرْمَى سَنَوِيًّا حَوَالَيْ ثَلَاثَةُ مِلْيَارَاتٍ مِنَ الْأَكْوَابِ الْمَصْنُوعَةِ لِاسْتِخْدَامِهَا مَرَّةً وَاحِدَة.[6] فَبَدْءًا بِأَنْفُسِنَا، يَنْبَغِي أَنْ نُقَلِّلَ بِقَدْرِ الْإِمْكَانِ مِنِ اسْتِهْلَاكِنَا لِلْبْلَاسْتِك، أَمَلًا فِي تَرْسِيخِ وَنَشْرِ الْوَعْيِ الْبِيئِيّ.
إِخْوَتِيَ الْكِرَامَ،
مِنَ الْمُؤْسِفِ أَنْ نُشَاهِدَ فِي حَيَاةِ الْمُسْلِمِينَ، اَلْكَثِيرَ مِنْ مَظَاهِرِ مَا تَحَدَّثْنَا عَنْهُ رَغْمَ أَنَّ رَبَّنَا عَزَّ وَجَلّ قَدْ أَخْبَرَنَا بِأَنَّهُ اسْتَخْلَفَ الْإِنْسَانَ فِي الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ اسْتَأْمَنَنَا عَلَيْهَا. إِدْرَاكُ هَذَا الْأَمْرِ وَالتَّصَرُّفُ عَلَى وَعْيٍ مِنْه، ألْيَقُ مَا يَكُونُ بِالْإِنْسَانِ الْمُسْلِمِ الْعَازِمِ مِنْ أَوَّلِ أَمْرِهِ عَلَى الِاسْتِسْلَامِ لِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى. يَقُولُ الْمَوْلَى جَلَّ جَلَالُهُ: ﴿إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا ❊ وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا ❊ وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا ❊ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا﴾.[7] فَالْحَقُّ تَبَارَكَ وَتَعَالَى سَيُنْطِقُ الْأَرْضَ يَوْمَ الْقِيَامَة، فَتَنْطِقُ بِكُلِّ مَعْرُوفٍ وَمُنْكَرٍ وَقَعَ عَلَيْهَا.
أَسْأَلُ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِلتَّعَامُلِ مَعَ كَوْنِهِ وَاعِيْنَ أّنَّهُ أَمَانَةٌ عِنْدَنَا، لَا مِلْكٌ لَنَا، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عِبَادِهِ الْفَائِزِينَ يَوْمَ الْقِيَامَة، وَأَنْ يَجْعَلَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا شَاهِدَةً لَنَا، لَا عَلَيْنَا. إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرَ عَلَيْه.
[1] سورة هود:٦١
[2] سورة الأعراف:٥٦، وانظر سورة الأعراف:٨٥
[3]صحيح البخاري، كتاب الرقائق، ٤٢، الحديث رقم (٦٥١٢)؛ صحيح مسلم، كتاب الجنائز، ٢١، الحديث رقم (٩٥٠)
[4]سنن أبي داود، كتاب الجهاد، ٤٧، الحديث رقم (٢٥٤٨)
[5]جامع الترمذي، كتاب العلم، ١٤، الحديث رقم (٢٦٧٠)
[6] Deutsche Umwelthilfe: www.duh.de/becherheld-problem
[7] سورة الزلزال:١-٤