خطبة
الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ
31.10.2024بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحٖيمِ
﴿ وَسَارِعُٓوا اِلٰى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمٰوَاتُ وَالْاَرْضُۙ اُعِدَّتْ لِلْمُتَّق۪ينَۙ ﴾
سورة آل عمران – ١٣٣
عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺَ :
« الشِّتاءُ ربيعُ المؤمن، قصُرَ نهارُهُ فصامَ، وطالَ ليلُهُ فقامَ »
أحمد بن حنبل، المسند، ٣/٧٥
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَام،
لَقَدْ خَلَقَ اللَّهُ الْوَقْتَ لِيَسْتَفِيدَ مِنْهُ الْإِنْسَانُ وَقَسَّمَهُ لِأَقْسَامٍ لِيَسْتَطِيعَ الْإِنْسَانُ اسْتِغْلَالَ هَذَا الْوَقْتِ بِشَكْلٍ مُثْمِرٍ. وَخَلَقَ الْكَوْنَ بِشَكْلٍ مُتَوَازِنٍ؛ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَالصَّيْفَ، وَالشِّتَاءَ، وَالرَّبِيعَ، وَالْخَرِيفَ. كُلُّ شَيْءٍ فِي الْكَوْنِ يَتَطَوَّرُ وَيَزُولُ مَعَ مُرُورِ الْوَقْتِ. إنَّ الْعِلْمَ وَالْأَعْمَالَ وَالرِّزْقَ وَالْعَدِيدَ مِنَ الْقِيَمِ وَالْإِنْجَازَاتِ الْأُخْرَىَ الَّتِي لَهَا مَكَانَةٌ مُهِمَّةٌ فِي حَيَاةِ الْإِنْسَانِ يُمْكِنُ اكْتِسَابُهَا مَعَ مُرُورِ الْوَقْتِ. إنَّ اللَّذِينَ يَسْتَطِيعُونَ الِاسْتِفَادَةَ مِنَ وَقْتِهِمْ سَيَصِلُونَ إلَى السَّعَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُنَبِّهُنَا عَلَى أَهَمِّيَّةِ الوَقْتِ بِقَوْلِهِ «نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ.»
إِخْوَتِيَ الْأَعِزَّاء،
الْوَقْتُ هُوَ أَغْلَى مَا نَمْلِكُ فِي الدُّنْيَا. وَلَا يَسْتَطِيعُ أَيُّ مَخْلُوقٍ أَنْ يُوقِفَ الزَّمَنَ أَوْ يَرْجِعَ بِالزَّمَنِ إلَى الْمَاضِي. كُلُّ لَحْظَةٍ تُعَاشُ مَرَّةً وَلَا تَعُودُ. وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَغِلَّ نِعْمَةَ الْوَقْتِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تُرْضِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ وَكُلِّ دَقِيقَةٍ وَكُلِّ سَاعَةٍ وَكُلِّ يَوْمٍ دُونَ تَضْيِيعِ وَقْتٍ. وَكَمَا قَرَأْنَا فِي الْحَدِيثِ الشَّرِيفِ الَّذِي فِي بِدَايَةِ الْخُطْبَةِ يَقُولُ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «الشِّتاءُ ربيعُ المؤمن، قَصُرَ نهارُهُ فصامَ، وطَالَ ليلُهُ فقامَ» فِي يَوْمِنَا هَذَا الْكَثِيرُ مِنْ النَّاسِ يَنْظُرُونَ إلَى فَصْلِ الشِّتَاءِ بِشَكْلٍ سَلْبِيّ، وَلَكِنْ نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذَا الْحَدِيثِ يُرِينَا وَجْهًا آخَرَ لِفَصْلِ الشِّتَاءِ بِحَيْثُ نَرَاهُ أَفْضَلَ الْفُصُول: “الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ“ كَمَا تَزْهَرُ الْأَشْجَارُ فِي الرَّبِيعِ، وَتَزْدَهِرُ الْأَغْصَانُ، وَتَظْهَرُ الطُّيُورُ وَالنَّحْلُ وَالْفَرَاشَاتُ، وَيَمْتَلِئُ كُلُّ مَكَانٍ بِالرَّوَائِحِ الزَّاهِيَة كَذَلِكَ يَأْتِي رَبِيعُ الشِّتَاءِ إلَى الْمُؤْمِنِ كَأَنَّهُ يُبْعَثُ مِنْ جَدِيدٍ. يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى تَحْوِيلِ سَلْبِيَّاتِ فَصْلِ الشِّتَاءِ إلَى إِيجَابِيَّات، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ دَائِمًا إلَى كُلِّ شَيْءٍ بِشَكْلٍ إِيجَابِيّ، وَيَجِبُ أَلَّا يُرَكِّزَ أَيَّ شَيْءٍ سَلْبِيّ حَوْلَهُ، بَلْ يُفَكِّرَ وَيُقِيمَ الْجَانِبَ الْإِيجَابِيِّ. وَعَلَى الْمُسْلِمِ أَنْ يَعْرِفَ كَيْفِيَّةَ الْوُصُولِ إلَى نَتَائِجَ جَيِّدَةٍ رَغْمَ الظُّرُوفِ الصَّعْبَةِ، وَيَعْرِفَ كَيْفِيَّةَ تَحْوِيلِ الصُّعُوبَاتِ إلَى فُرَصٍ وَأَرْبَاح. فَمِنْ الْمُمْكِنِ الْوُصُولُ إلَى نَتَائِجَ جَيِّدَهٍ مِنْ كُلِّ مَوْقِفٍ صَعْبٍ. وَكَمَا يَقُولُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ الْكَرِيمِ “ إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا “
أيُّها الإخْوَةُ الأفاضِل،
يَنْبَغِي لِلْمُؤْمِنِ الْعَاقِلِ أَنْ يَعْرِفَ كَيْفَ يَحُوِّلُ الْبَرْدَ الْقَارِسَ إلَى رَبِيعٍ. مَثَلًا بِمَا أَنَّ لَيْلَ الشِّتَاءِ طَوِيلٌ فَلْيُقُمْ الْمُسْلِمُ بِاللَّيْلِ، يَتَهَجَّدُ وَيَتَفَكَّرُ فِي خَلْقِ اللَّهِ وَيَتْلُ الْقُرْانَ وَيَقْرَأْ الْكُتُبَ وَيُرَاجِعْ نَفْسَهُ وَيُخَطِّطْ لِلْمُسْتَقْبَلِ. وَبِمَا أَنَّ النَّهَارَ قَصِيرٌ لِيُزَكِّ الْمُسْلِمُ نَفْسَهُ بِالصَّوْمِ. يُمْكِنُ تَحْوِيلُ صُعُوبَاتِ الشِّتَاءِ إلَى رَبِيعٍ بِتَرْكِنَا الطَّعَامَ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى الطَّعَامِ وَإِلَى مَأْوَى، وَحَتَّى الْحَيَوَانَاتِ وَالطُّيُورِ.
بِاخْتِصَارٍ فَمَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ لَيْسَ لَدَيْهِ وَقْتًا كَافِيًا فَإِنَّ فَصْلَ الشِّتَاءِ يُوَفِّرُ لِلنَّاسِ وَقْتًا أَطْوَل. يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَاقِلِ أَنْ يَسْتَغِلَّ الْوَقْتَ مَادِّيًّا وَمَعْنَوِيًّا، وَعَلَيْهِ أَنْ يَسْتَفِيدَ بِالْوَقْتِ مِنْ خِلَالِ الْقِرَاءَةِ، وَالذِّكْرِ، وَالْحَدِيثِ مَعَ عَائِلَتِهِ وَأَقْرَبِ النَّاسِ إلَيْهِ، وَقَضَاءِ حَوَائِجِ الْمُحْتَاجِينَ، وَأَنْ يَكُونَ سَبَبًا فِي تَخْفِيفِ الْهُمُومِ لَهُمْ. عَبَّرَ الشَّاعِرُ بِشَكْلٍ جَمِيلٍ عَنْ حَقِيقَةِ الزَّمَن “يُمْكِنْ شِرَاءُ الْيَاقُوتِ بِالْأَوْقَاتِ، لَكِنْ لَا يُمْكِنُ شِرَاءُ الْأَوْقَاتِ بِالْيَاقُوت.” يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يَعْرِفَ قِيمَةَ الْوَقْتِ وَعَدَمَ إضَاعَتِه، وَيَسْتَغِلَّ هَذَا الْوَقْتَ بِمَا يُرْضِي اللَّهَ تَعَالَى. وَأُرِيدُ أَنْ أَنْهِيَ الْخُطْبَةَ بِالْآيَةِ الَّتِي قَرَأْتُهَا فِي بِدَايَةِ الْخُطْبَةِ ﴿وَسَارِعُٓوا اِلٰى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمٰوَاتُ وَالْاَرْضُۙ اُعِدَّتْ لِلْمُتَّق۪ينَۙ﴾
نَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يَرْزُقَنَا جَمِيعًا اسْتِغْلَالَ الْوَقْتِ وَفَصْلِ الشِّتَاءِ بِشَكْلٍ مُثْمِرٍ وَجَيِّدٍ.
الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ
الشِّتَاءُ رَبِيعُ الْمُؤْمِنِ